قسوة رحيل المبدع اليمني
فارس العليي
في الوسط الأدبي شعرا وسردا وفنونا ، تتجلى واحدة من اقوى مظاهر الاستبداد والاستبعاد للتمظهرات الإنتاجية الحقيقية، خارج إطار السلطة التي تمثل قسرا حدث المشهدية الثقافية، تتوزع منها الاصطفائية حداثة وتقليداً لتغمر ما ? يستحق الذكر إذا ما استقر أناه بأدوات نقدية منصفة ، ليسوا مبدعين اللهم ان ممتثليه قائمون على قدرة مظهريات شكلية هدفها تكريس حضورهم الأنيق ، ضمن ترويج لفكرة المبدع بقدر من الهندمة الخبيرة بإيقاع موضة الأزياء ومقاسات موديلات مناشئ إنتاج ذلك اللبس، يحدث أن يصبحوا قائمين على صياغة المشهد الأدبي والثقافي برمته .
الذي يسقط بعيدا عن ذلك الشكل هم المبدعون حقا بعميق تجاربهم وشغفهم الحيوي ، رغم الهوامش الفاعلة لاستحثاث طقس ابداعية المنتج ومناخاته ودفع ما ورائيته ، الممتنع عن الالتقاط لكشفه بمغايرة ، على أشد العيش في مسافة تتعزز من رواد الموضة، من يدعون الريادة ويتعففون فوح مبدعيها الذين جاءوا من أعماق التجارب المتعبة بكل ما فيها من ندوب وانسحاقات مدمية .
هؤ?ء يقدمون عطاءاتهم للحظانية انصهرت بعرق كوني لتقول تفاصيل عصية الإنخلاق على من يقطفون ثمار المكشوف السطحي وينتظرون من المتلقي الاندهاش ..
المبدع الحقيقي صفة تتجدد في رحيل كل قامة من قامات الابداع على طول العالم ، لكن في اليمن للرحيل حكاية ألم ممزقة مقارنة مما يبدو عليه من تماسك في اوطان عربية شقيقة..
نتذكر الرحيل الموجع للناقد الكبير عبدالله علوان والذي يتجدد الآن في رحيل كبير من نفس الطراز ، لشاعر غادرنا بالأمس بمواقف وردود فعل باهتة للوسط الأدبي والإبداعي أفرادا ومؤسسات ، والأخيرة وجدت في اليمن اصلا لخدمة الشللية التي تسيطر على كل ما ? يمكنك عزيزي القارئ ان تتخيله ، يحاربون منها كلما يمكن أن يكون هاما للأدب والشعر والفنون .. وأولئك الفاشلون في السلطة السياسية صورة مستحقة لفاشلي الثقافة والإبداع ، مطابقة جدا للوعي الوطني الذي يتم تدميره في المؤسسات المدنية السياسية .
هؤ?ء يرحلون بخفوت إعلامي كما يحدث الآن لراحلنا وشاعرنا الكبير علي عبدالرحمن جحاف .
رحم الله البردوني كان قد تفرغ لهؤ?ء الأوغاد وساعده انه لم ينجب أو?داً يخاف على مستقبلهم، ويمنعه من أن يكون بتلك الشجاعة التي ? تخشى على شيء، كان يجعل بعض الشعراء الذين على مقربة من النظام يبكون أمام توبيخه وشتائمه لهم كلما اكتشف عنهم خيانة وهم معروفون.
تطورت الحياة وجعلت الإمكانية وقدرة التواصل وعقد علاقات مصالح خاصة تمكنهم من إيجاد مصادر العيش، ومن ثم مصادر الدخل الذي يحدث مخرجات التحصيل العلمي والتأهيل المناسب، للانقضاض على الأماكن المطلوبة لشغل الجهات الوظيفية المتاحة، بينما ظل في الهوامش أولئك البائسون بطبيعة ظروفهم المدمرة، الذين ينتجون منها أروع القصائد الشعرية والنصوص بمعناها الإبداعي الشامل ، لكنهم افتقدوا للعلاقات التي تتسخر خدمة لهم أحياء وبعد موتهم مع أخذ ظروف الانحياز ، داخل مجتمع يمني مازال المثقف فيه قروياً وعنصرياً أكثر من كونه معاصراً لمتغيرات وتطورات المنظورات التي تنبذ بشدة سلوكيات كهذه ما بالنا بالناس العاديين .
المبدع ضحية هذه المسافة المقطوعة من شجرة السلطة بمعناها القمعي والمستبد ، تجدونهم يستظلون قسرا تحتها لكن القرود وحدها من تقطف الثمار ..
علي عبدالرحمن جحاف طائر الشجن المتوج بالتهايم وامشقر بذخ رائحة المخيلة المتدلاه من صفصاف نوافذ الرؤيا ، تطل القصيدة من على شوامخ “شماخ” وتحط بحنين تهامية دلالاتها ، و? أحد سواك يا فل نيسان قناص روابي الغيد الملاح ، تبرق كواذي وشحه فتفوح بواكير الزيدية بروائح البنات المخظبات .
أول عبارة مجنونة تاه جحاف شعرا نقيا في جمالها كانت السريالية طريقة ترامز لارتباط العبارة بمفهومات شعرية سحيقة ، لا يوجد شعراء حقيقيون خرجوا بصحيح العبارة من حيرة المشهدية الشعرية في حيقها الأول دون أن يمسسهم شيء من تيه ، صائدي الحقيقة المستعصية على حسبان تماسك وصف اللحظة وزمنية جمالها ، مثلا : فل نيسان ، كاذي شباط ، ورد تشرين ، لون ورائحة وزمن ، فكانت النتيجة عسرة لمفهوميات اللغة ? تنفع معها سوى الإشارة والإيماءة الصامتة.
هذا ما يفعله أيضا الشاعر جحاف فيما تقدمه قصيدته الفصحى وتستفده العامية والغنائية متقنة الاتساق وتصاويرها تقطف غصناً طريا ، من لهجة مزيجه بين التهامي والجبلي فيضع العبارة في مبتداءات التحدي ، ثم يدفع دلالاتها صوب اشتغاله الغنائي الخاص وفي اخريات من بنات قصائده يصل بعشيقاته مصعد الغرام ونازلا بهن أسافل النهدة ، هدهدات شاعر كبير انتصل الحب الممشوق كلوامع سيوف عنترة ، وددنا تقبيلها واثبت لقطرة الشعر رهافة المعشوق .
قيمة الإيقاعية ليس الطرب وحسب قدر ما كان سعياً حثيثاً لغزل يكابد شوقه لحظة الإمساك ما يناله العشق أخيرا ، والثمن سابق لشرح تضحياته الكبيرة وغير الهينة .
جحاف قدم ألينا من نواح ريفية بعيدة حيث المبدع منسي هناك إلا أن في عزلته شعراً مدهشاً ، ومليء بالطبيعة والناس وسلوكياتهم في استقراء شعري تحلق معه حركات الأشياء وترتسم تصاوير القصيدة إحساس ارتباطاته في واقع مليء بذكريات تجاربنا الحياتية ، وأنا لا اقصد هنا الوضوح الذي يفسد القصيدة ويكشفها بتقريرية تقلل من منجزه الإبداعي عالي الجودة و?تلك المباشرة التي حملته لنا تجارب الكلاسيكية الشعرية، ما قصدت ، قدرته في نقل الهامش المعيشي وتجارب الحب وقصص العشاق المغامرة والذاوية بنضج تجربة شعرية وروحية شاعر قناص ، يلتقط من مخمل اللحظة شغفها ودلالاتها ويؤنسن سياقات تتحف المتلقي وتضعه قصاد نفسه وتجاربه الخاصة.
شعر جحاف نحن الريفيين ، واليمنيون غالبيتهم العظمى ريفيون بسطاء مروا بمحنة العشق ذاته موزعون بين العادات وارتجاعات التقاليد المتمنعة افصاحات لوعته وحنينه .
جاء الشعر صورة محبوبة لفرادة الشعور الإنساني الذي ينقل أحاسيس الشاعر المرهف ساخرا ومجسدا لحالة الالتياع ، هكذا استطاع شعراء فريدون حفر الشعر في مقامات إرثية مقتحمين سياجات السلطات الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية ، وشاعرنا الكبير علي عبدالرحمن أحد أهم محترفي تخومات الشعر ، دفع الشعر الشعبي والفصيح بمحصلة معارفه ، ابن جحاف ، من أهم الأسر الضليعة بالعلم وصنوف المعرفة والفنون عموما ، ولهم مآثر كبيرة في التأليف ..هذه الرجعة نقطة تأسيسية غاية في الأهمية أسهمت فيه منذ وقت مبكر من حياته في إبراز موهبته وتوجيهها ، وكانت علوم القرآن واللغة نقطة مدخل لأهم شعراء اليمن قبل ثورة 26 سبتمبر ، وكانت حجة أحد المنابر الهامة لتعليم هذه العلوم ، وقد استفاد من دراسته في القاهرة والتحاقه بالوظيفة العامة ولقاءات الشعر ومهرجاناته في ايغال تجربته وتعميق جذورها، إلى أن أصبح لدينا شاعر له تجربته وبصمته الشعرية بصورتها المتفردة، ولدى الناقد قدرة استشفاف مسيرته الإبداعية ، فهو الشاعر الشعبي الفصيح الغنائي الحميني وبين تنقلات متنوعة كهذه كان لجحاف نقرته الشعرية الواضحة بصماتها ، فمن كاذي شباط إلى ورد تشرين انسراب مخيلة بين الزمن والرائحة والجمال اللوني ، تماسفات اشتغالاته الخاصة لأبعاد ثلاثة قائمة ، إيقاع الحواس داخل تفاصيل الوقت الذي حاول مصاحبته بمتعة الرؤية ومخيلة الرائحة ، وستجد طرائقه المميزة في بعث كل ما من شأنه اكمال الإيقاع الى آخر شواطئ الأغنية ، اعتمادا على موسيقى الطبيعة وتجارب الناس وممارساتهم وتفاعلاتهم اليومية ، واختار بالمقابل ثلاثة فصول جميلة تفوح جميعها الروائح الزكية والألوان الزاهية ، مدركا خصوصية الربيع والصيف والخريف ورودا وكاذياً وهذا الأخير ما اعجب ما يلزم لتفتح زهره ، إذ ربما لا يعرف الكثير خصوصا من الشعراء ان الكاذي ينتظر البرق لتنبجس زهوره وهي علاقة شعرية غاية في العجب ، لكن جحاف ابن وديان الكاذي والفراش والنحل ومنها جعل هذه الجماليات عنوانا لتجربته الشعرية.
اسند جحاف كقلائل شعراء جيله التثقيف المجتمعي معتمدين على القصيدة في رفع مستوي الوعي ، والتقليل من أضرار الأمية والحد من تقاليد وعادات انغلاقية بطبيعة الجهل والأمية المتفشية ، فالرسالة التي كان يحملها الشاعر ضمن وظيفة أساسية لتحفيز مدركات الفهم على نقيض شعر الحداثة وشعرائها الذين لا يولون للمواقف والمناسبات أهمية في سياق تطور الرؤية الشعرية الحداثوية بعد زمنية الثورات ، كان للشاعر إسهامه الكبير في رفد الوعي والانخراط في العمل الاجتماعي والسياسي وكان عتبة التحولات الكبرى .
جحاف الشاعر الإنسان دائما ما وجدناه في تفاصيل القصيدة بكل فرائحيتها وأحزانها تواشجا متماهياً في الواقع ، عنون قصائده واصطاد تفاصيلها بنداوات مشاعر وأحاسيس الناس وقدم موقفا وطنيا داخل كل الأيديولوجيات وهو اللامنتمي ، كيمني تليد موغلا في أتون الأمل ومداخل الخشية لكن بقلب شاعر جامح ساخر يسكنه التحدي باليقين والتجاوز .
جحاف شاعر الورد ، برق الكاذي بشعره وهو طعم العسل.
الأديب الكبير علي عبدالرحمن جحاف كالفراش احترق في الضوء لأنه عشق الفجر وفجر الثورة فسالت منه الأغاني وتدثر الحمينيات لحنا شفافا كروحه المحلقة .