في15 مايو من كل عام، تختفي أمام كل أحرار الأرض أية تفاصيل أو قضايا جزئية، وتتصدر قضية النكبة من جديد، في دورة من الذكريات في ظل الحياة نفسها مع سر البقاء والصمود في كل الأمور، لذا يتردد سؤال: لماذا لا تتغير القضية المركزية؟.. وهو سؤال مشروع يعد طرحه من جهة ما، ذو أهمية شديدة في هذه اللحظات التاريخية في عمر البشرية، فبالفعل للبعض أن يتساءل: لماذا تظل فلسطين هي القضية المركزية لأحرار العالم رغم كل النكبات والمشاكل والأزمات التي تطحن الشعوب في مشارق الأرض ومغاربها.. أليس من باب أولى أن تكون إحدى قضايانا المتمثلة سواء في الديكتاتوريات المتسلطة على الشعوب أو في الإرهاب التكفيري الذي يفت عضد الأوطان أو الفقر الذي يبري كل يوم عظام المستضعفين في الأرض هي القضية المركزية ولماذا لا تكون القضية المركزية نسبية حسب أولويات كل وطن أو جهة؟.
أوضحت الأحداث التي يشهدها العالم عموما والمنطقة العربية على وجه الخصوص في العقود الأخيرة لكل عاقل واع ذو بصيرة “حقيقة القضية الفلسطينية”، وكيف أنها في حقيقتها المجردة ليست فقط قضية صراع على أرض أو قضية صراع ديني، كما أنها ليست مجرد قضية شعب أو قصة أرض نهبت وسرقت على أعين البشرية في أخس مخطط دنيء في تاريخ الإنسانية، لكن بات من الواضح ما كان يردده الأحرار الواعون منذ بداية القضية أنها تجسد بشكل كامل ومتكامل الصراع بين الخير والشر في العالم، وأنها تمثيل صارخ يجمع كل ما يمكن تصوره من شرور في العالم؛ من استبداد وتسلط ورأسمالية متوحشة وعنصرية متدنية واستضعاف للشعوب بمهارة وذكاء تراكم عبر القرون.
يعد الكيان الصهيوني تتويجا لمسيرة تيار الشر في العالم، بل أعمق، فيمكن تصويره أنه صولجان الشيطان والعرش الذي أسسه خط أعداء الإنسانية منذ أن قتل قابيل هابيل، وحتى اليوم، يحاول الكيان بكل جهد معلوم وغير معلوم الحفاظ على استقرار عرش الطغيان في منطقتنا، التي تعتبر قلب العالم النابض.
والحقيقة أننا لسنا فيما سبق مبالغين أو نقوم بالتهويل، وليس على الواقع إلا أن يصمت قليلاً ويتأمل كثيراً وينظر لكل الأمور من حوله نظرة فوقية كلية ليدرك أن ما قمنا بوصفه هو جزء من الحقيقة التي هي أقبح وأبشع من ذلك بكثير، ولذا لم يتردد أرباب الكراهية والمتسلطين بسيوف القهر على الإنسانية في بذل كل جهد للحفاظ على هذا الكيان، فمن ناحية معنوية يعد رمزاً لانتصارهم الزائف، ومن ناحية واقعية يعتبر الضامن لبقاء قلب العالم في قبضتهم.
انتشرت قصص أسطورية عن حلم الدولة الصهيونية من النيل للفرات، وربما أن الصهاينة أنفسهم ساهموا في نشره لتشتيت العقول عن الفكرة الحقيقية وراء جهدهم، فتكوين دولة يهودية على هذه المساحة أمر غير معقول ولا منطقي ولا نظنه من طموحهم أبدا، والمشكلة أنه حين لا يتم الأمر مع مرور الزمن تصبح فلسطين أمراً منسيا كان متوقعاً ما أسوأ منه، وربما ردد بعض المتابعين أن كل ما يقال عن شرور إسرائيل كذب، فمثلا هم لا يسعون لتأسيس دولة حدودها النيل والفرات، لكن الواقع يعلم أيضاً أن دولة الكيان الصهيوني المزعومة لن تكتفي كونها تأسست في فلسطين، بل يجب أن تكون الدولة العظمى في المنطقة المسيطرة والمتحكمة والمتزعمة، فما عليها إلا نزع كل مقومات القوى عند جيرانها والعمل على إعاقة أي محاولة لاستعادة هذه المقومات، فكان تقسيم المنطقة وتفتيتها وإعادة رسم حدودها مقارباً في التاريخ لتأسيس الكيان عام 1948م، بل كان وصول عائلات معينة للحكم في هذه الدول مصاحباً لذلك أيضاً، وكأنه تدبير مسبق، وقارئ التاريخ يعلم جيداً كيف تأسست الأنظمة العربية الحاكمة على يد نفس من أسسوا الكيان الصهيوني.
هل نؤسس لنظرية المؤامرة الكبرى؟
صور البعض الأمر وكأنه مؤامرة كبرى وكأن هزيمة 67م وضياع فلسطين ونكبات الشعوب العربية والجهل المستشري والديكتاتوريات المتسلطة وكذلك التطرف التكفيري والفشل الاقتصادي من صنع الصهاينة بالسحر والشعوذة أو الأيادي الخفية الماكرة المرتبطة ربما بكائنات فضائية! وبهذا الشكل غير العاقل واللاواقعي في عرض القضية تم إنكار المؤامرة جملة وتفصيلاً من قبل النخب المثقفة، وتم الاستخفاف بالعدو كردة فعل على “شماعة المؤامرة”، ما زاد الأمر تعقيداً، وفائدة للصهاينة.
الأمر في حقيقته “مؤامرة”، لكنها تتم عن طريق استغلال الفرص والدراسة الجيدة والواعية وتغذية جميع الموارد التي تؤدي لتحقيق الهدف، وهذا ديدن المصالح في العالم الحديث وليس بدعاً ولا عجيباً، فكان دعم الديكتاتوريات وبقاؤها بل وزيادة تسلطها أحياناً مساعداً في تحقيق الهدف، وكان توسيع رقعة التطرف والمتطرفين تحت مسمى الحريات تارة ومسمى اللعبة السياسية تارة أخرى، مساعداً أيضاً في تحقيق الهدف، وكذلك كل مظاهر إعاقة التقدم الموجودة في بلداننا، فهي من صنع أيدينا نحن ومن أنفسنا، لكن المهارة كانت في كيفية استغلالها والاستفادة منها بشكل كبير، بل وتطويق وتدمير أي محاولات جدية للتخلص من هذه المعيقات حتى بلغ الحد احتلال العراق وزرع القواعد العسكرية في الخليج وفرض الحصار الاقتصادي على إيران وسحب بساط البنك الدولي والاقتصاد العالمي أن تطلب الأمر من أي نظام يحاول الخروج من اللعبة.
استغل الصهاينة وأربابهم ضعف الأتراك في مطلع القرن الماضي، فنهبوا قلب المنطقة وتأسست إسرائيل في نفس توقيت انطلاق “الثورة العربية الكبرى”، ويستغل الصهاينة أيضا ضعف الدول العربية اليوم، فيقوون ويثبتون كيانهم في نفس توقيت انطلاق الثورة العربية الكبرى الثانية (الربيع العربي)، وكأننا لا نتعلم من التاريخ، فحول ثوراتنا لمواطن ضعف لا مواطن قوة!.
وكما يقول علماء التاريخ إن الدول تبدأ مراحل ضعفها حين تتآكل أطرافها ويتم السيطرة على مراكز قوتها، سيطر الصهاينة على يافا وحيفا وأرض فلسطين في النكبة، واليوم يسعون لتقليم أظافر الدول من حولهم وإنهاء أي مقومات جيوسياسية لتلك الدول، فغزا الصهاينة البحر المتوسط ووضعوا أيديهم على ثرواته الاستراتيجية، ثم انطلقوا يؤكدون أن الجولان لن تعود أبدا لسوريا، ثم انطلقوا يفكرون في مشروع جدي ينهي العصر الذهبي لقناة السويس، وها هم يدعمون فكرة تقسيم العراق وتفتيته ليكون لهم الحظ في إقامة علاقات مميزة مع الدولة الجديدة التي ستسيطر على نفط العراق وخيراته، وما لبثوا إلا ووجدناهم حاضرين بقوة في باب المندب يؤججون الصراع هناك ويدعمونه عبر حليفهم الأكبر (أمريكا) ثم التوغل في منطقة الخليج والتودد وتقديم “المصالح المشتركة” لتلمع عيون حكام الخليج أمامها.
واليوم، أيضاً ينظرون إلى مصر لتقليم أظافرها في هذا المرحلة من الضعف التي تمر بها والتخبط في إدارتها وضعف إرادتها الشعبية، فأياديهم واضحة في العبث بنهر النيل ومنابعه، ويدعمون بكل قوة خروج مصر من السيادة والنفوذ على خليج العقبة، الذي طالما كان مؤرقا لهم، فكان تنازل مصر عن تيران وصنافير لصالح الحليف المستقبلي لإسرائيل “السعودية” وتحويل مضيق تيران لمضيق دولي بعد أن كان مياها إقليمية مصرية خالصة، وبذلك يكون الهدف أن تفقد مصر أهم أربع نقاط قوى لديها «ثروات البحر المتوسط ومياهها الاقتصادية، نهر النيل من خلال سد النهضة، قناة السويس عبر مشروع منافس، مضيق تيران والملاحة في خليج العقبة”.
في الذكرى 68 لنكبة فلسطين، هل نبدأ بجدية في العمل على إصلاح أوطاننا وثوراتنا بفهم ووعي حقيقيين والخروج من الجزئيات الشكلية والخلافات الضيقة والأعداء الوهميين الذين نصطنعهم لأنفسنا ونركز على القضية المركزية التي تتشعب منها وإليها كل مشاكلنا بطريق مباشر أو غير مباشر؟.
Prev Post