وداعاً زميل العمر

محمد قاسم الجبوبي

قال تعالى (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ))
صدق الله العظيم
الزميل العزيز راجح علي محمد راجح الجبوبي رفيق الطفولة عايشته وعاصرته منذ الصغر وحتى وفاته.
بدأت طفولتنا سوياً بالالتحاق بالمعلامة (مكتب القرية) قرية صلاحيت بني مسلم ناحية القفر (مديرية القفر) لواء إب (محافظة إب)
وكانت لنا ذكريات طفولة جميلة مع قلم اليُرَاع ولوح الخشب، الذي يمثل السبورة في العصر الحديث بفارق أنه كان فردياً وحبره كان من دخان المسرجة التي كانت الوسيلة الوحيدة للإضاءة عند أغلب الناس ، والمعروف شعبياً (سبخ الزيت) وفي مرحلة لاحقة دخان الكيروسين (القاز). استعمرينا نتعلم القرآن الكريم في المعلامة قرابة سنتين وذلك على يد الفقيه (سيدنا) أحمد محمد عبدالكريم الصوفي ،و سعد الدين القحطاني ، وناصر قُرعي ، والوالد قاسم أحمد علي الجبوبي، وناصر محمد علي النجري ، وعبدالله علي الشيخ ( القحطاني) ، رحمهم الله جميعاً.
وكما هو معروف كان التعليم في ذلك الزمن مقتصراً على قراءة القرآن وكتابة حروف الأبجدية ، للذكور دون الإناث..
كنا نذهب مع غيرنا من التلاميذ إلى المعلامة في وقت مبكر صباح كل يوم، عدا الجمعة ، وعند الوصول إليها نسلم على سيدنا الذي يرحب بنا ثم يباشر نشاطه اليومي بتنظيم وترتيب التلاميذ عند وصولهم في حلقات ويعين في كل حلقة من يديرها من تلاميذها. وبعد حوالي ساعتين من الدراسة يسمح المدرس للتلاميذ براحة ثم يعودون لمواصلة التعليم حتى دخول وقت صلاة الظهر؛ حيث تُعلن الفسحة (نهاية التدريس اليومي) وعند الرواح من المعلامة يردد التلاميذ بصوت جماعي (غفر الله لسيدنا ولوالديه، ووالدينا مع والديه)
وعند زيارة ولي أمر أحد تلاميذ المعلامة أو زائرين لها يرددون فرحين بصوت مرتفع وجماعي قائلين:-
أهلاً وسهلاً يا كرام شرفتموا هذا المقام)
نلنا بكم كل المَرَام أهلاً وسهلاً يا كرام)
وبعد ختم المصحف الشريف الذي حظيت به مع الزميل راجح الذي يُعد نجاحاً في قراءة القرآن الكريم قراءة فقط. في هذا اليوم يحتفل أفراد أسرة الفائز أو الفائزين ابتهاجاً بالمناسبة تحت عنوان ختم القرآن ويقوم الميسورون من أولياء الأمور بإعداد وليمة غداء ابتهاجاً بهذا النجاح ، ويكون الاحتفال التكريمي لمن ختم القرآن غالباً يوم الخميس. في هذا اليوم يعتز ويفرح المحتفى به وأفراد أسرته وزملاؤه بحضور أولياء الأمور، ووجهاء القرية ، وعلى رأس المحتفلين بهذه المناسبة  الأستاذ معلم القرآن الذي يطلق عليه اسم سيدنا (الفقيه) ويسمح لتلاميذ المعلامة بالإجازة لمشاركة زملائهم الناجحين أفراح نجاحهم التي يحلم كل واحد منهم بالوصول إليها.
وشهادة النجاح هي اللوح الخشبي الخاص بالدارس خلال فترة سنوات الدراسة بعد أن يقوم سيدنا بنقش ورسم أشكال فنية جميلة بلوح الفائز وذلك باللون الأخضر مستخدماً أوراق نباتية خضراء تترك أثراً بارزاً في اللوح رسماً أو كتابة.
أثناء المهرجان الاحتفالي الذي يبدأ بالمعلامة وينتهي بالجامع ، ثم من الجامع إلى منزل ولي أمر الفائز لتناول طعام الغداء ، يحمل المحتفى به اللوح على ظهره مربوطاً برقبته مبتهجاً إيذاناً بوضعه على إحدى واجهات المجلس ليراه مرتادو وزائرو البيت من الأقارب والجيران أو من الضيوف. يتقدم الفائز وخلفه استاذ المعلامة وزملاؤه وبحضور الأهل والأقارب بمهرجان سير وطواف في شوارع القرية. وخلال السير يردد الحضور بأصوات عالية الأنشودة المتداولة حينها في من ختم القرآن الحكيم:-
ياحنان يامنان مُن علينا بالقرآن والمغفرة والرضوان)
محمد يا ابن عبدالله ياقارئ كتاب الله عليك القبة الخضراء)
وفي عام 1964م أي بعد عامين من قيام ثورة الــ26 من سبتمبر الخالدة، اتجهنا أنا والزميل راجح وأخوه محمد علي محمد راجح الجبوبي وعبدالله محمد يحيى الجبوبي إلى العاصمة صنعاء كأول خريجين من المعلامات تلتنا دفعة ثانية ضمت: زيد صالح عبدالله الفقيه، ومحسن محمد صالح رمضان ، ومطهر حزام حيدر، وناصر مصلح حيدر ، وآخرين لا يتسع المجال لذكر أسمائهم، طلباً للعلم في المدارس الحديثة لعدم وجود نظيراتها في الريف. والتحقنا أنا والمرحوم راجح وأخوه محمد والأخ عبدالله بمدرسة الوحدة ( المدرسة العلمية سابقاً) ولاحقاً مدرسة جمال جميل الواقعة بميدان التحرير وسكنّا في حي باب السبح وذلك في منزل الأستاذ أحمد عبدالله محرم الذي أمتلك مشاعر انسانية نبيلة ووطنية عالية نحو أبناء المديرية الذين تطلعوا للتعليم. وكان له دور مشهود في دعم الكثيرين للالتحاق بالتعليم متكفلاً بالإيواء قبل أن يساعدهم على الالتحاق بالقسم الداخلي. كان محرم يدفع الشباب للتعليم ، وجعل جزء من منزله وقفاً لإقامة الطلاب من بيت الجبوبي، ومحرم، والسعيدي، والبرح، ونشوان والسالمي، وبني شمس الدين القادمين من مختلف قرى وعزل ناحية القفر (مديرية القفر)، حتى يهيئون أنفسهم للحياة الجديدة في مدينة صنعاء .
ولقد تحملّنا أنا والمرحوم راجح وزميلانا محمد وعبدالله عناء الانتقال للدراسة بصنعاء، ثم تعز بعيداً عن أسرتنا التي تقيم في إحدى قرى مديرية القفر ، وليس لدينا من خيار سوى العيش في القسم الداخلي الذي كان حينها يستقبل ويحتضن الطلاب الوافدين من مناطق عدة في اليمن .
وخلال دراستنا في المدرسة الداخلية والإقامة فيها ( الأكل والسكن)، كان المرحوم مهتماً بالتحصيل العلمي وظهر عليه بوادر الذكاء في وقت مُبكر حيث كان مستواه الدراسي للأحسن. ففي حين التحق الأخوان محمد وعبدالله للدراسة بالكلية الحربية عام 1969م ، اخترت أنا والزميل راجح التعليم المدني بالالتحاق بالقسم الداخلي بتعز بدار الناصر حارة الطحّان (النصر سابقا). مكثنا بتعز حتى نهاية التعليم الثانوي عام 1975م.
وخلال فترة الدراسة كان الزميل المرحوم كثير القراءة لكتب وقصص جواهر الأدب العالمي وما قدر عليه من كتب الأدب والشعر. وفي عام 1976م تم قبولنا أنا والزميلين راجح الجبوبي ويحيى العراسي؛ كموظفين في وكالة سبأ للأنباء بمقرها القديم الكائن بشارع عمر بن الخطاب المتفرع من شارع 26 سبتمبر، وهناك التقيت بالزميل محمد عبده قائد حيث امتدت زمالتنا في العمل الصحفي لأكثر من ثلاثة عقود وزملاء آخرين لا يتسع المجال لذكرهم.
وفي بلاط صاحبة الجلالة مهنة المتاعب ؛ تزاملنا مع العديد من الإعلاميين والصحافيين الذين كان لهم السبق أمثال :  محمد عبدالله البابلي، ومحمد ردمان الزرقة، وعلي عبدالله العمراني، ومنبه محمد حسن ذمران، وعلي محمد الضحياني، رحمهم الله جميعاً، والأستاذ يحيى صالح الشوكاني، والأستاذ حسن محمد العلفي، أمد الله في عمريهما .
وعند إعلان الوحدة المباركة تزاملنا مع عدد من الأخوة أمثال الأستاذ عبدالرحمن عمر السقاف، الذي عمل نائباً لرئيس مجلس الإدارة في وكالة الأنباء اليمنية سبأ، ومحمد عبدالرب الذي عمل مديراً عاماً للتحرير العربي، وغيرهما العديد من الزملاء والأخوان الأعزاء في الوكالة من الأسماء المهنية المحترمة.
تأثر المرحوم الأستاذ راجح الجبوبي بالأدب اليمني والعربي والعالمي، وكان يميل في الإطلاع على نتاج أبرز الكتاب اليمنيين والعرب ومنهم محمد عبدالولي، وعلي أحمد باكثير،  وإحسان عبدالقدوس ، ومصطفى لطفي المنفلوطي. وأظهر اهتماماً واضحاً أثناء نضوجه الثقافي والفكري في الإطلاع على نتاج أبرز الأدباء والمفكرين عربياً وعالمياً.
كما أن الأستاذ راجح اهتم كثيراً بقراءة القضايا والدراسات الفكرية والمؤلفات النقدية منها مؤلفات ودواوين المرحوم الأستاذ عبدالله صالح البردّوني، وأديب اليمن الكبير الأستاذ الدكتور عبدالعزيز صالح المقالح، أمد الله بعمره ومتعه بالصحة والعافية، بالإضافة إلى مؤلفات المرحوم مطهر علي الإرياني.
كما احتل الأديب العربي العالمي نجيب محفوظ والمفكر أودونيس والشاعر نزار قباني والشاعر صلاح عبدالصبور والأديب الإنجليزي العالمي وليم شكسبير، ومكسيم غروكي وتلستويا وفيكتو هيجو وإرنست هيمنقواي، مكانة بارزة في قراءاته اليومية
وكان الفقيد ، كما يعرف جميع من عملوا معه ورافقوا سيرته الدراسية وغيرها، يتحلى بدماثة الخلق والتواضع الجم وحسن المعشر وصاحب ابتسامة هادئة وتصرف مثالي ونظرة ثاقبة لمهنة المتاعب.
وأذكر ـ وأنا أكثر الناس التصاقاً به ـ  أنه لم يحمل حقداً أو ضغينة أو كرهاً لأحد ، وكان يدافع عن حرية وكرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات ، ويؤمن بضرورة تحرر الإنسان من الظلم والقهر النفسي ، وبمبدأ الرأي والرأي الآخر ، وعدم معاملة الآخرين انطلاقاً من التنظيم أو الحزب الذي ينتمون إليه. وكان يشارك من يعرف ومن لا يعرف أفراحه وأتراحه وإن تحدَّث لا يكون حديثه إلا فيما يقارب وجهات النظر المتباينة والتي كانت تحتدم وتصل في بعض الأحيان حد الاشتباك بالأيادي .
أتذكر وبمزيد من الفخر والاعتزاز نشاطات ومناقب المرحوم الأستاذ راجح علي الجبوبي، حيث بادله الزملاء والإعلاميون على مستوى الوطن اليمني الموحد وخاصة زملائه في وكالة الأنباء اليمنية سبأ الحب والاحترام والتقدير، ومنهم أولئك الذين عملوا معه منذ التحاقه بالوكالة رئيساً ومرؤوساً.
رحم الله الفقيد رحمة الأبرار وأنزله بجوار الصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وعصم الله قلوب أهله وذويه ومحبيه بالصبر والسلوان.
إنا لله وإنا إليه راجعون

قد يعجبك ايضا