الجهل بمفاهيم جوهر الدين الحنيف أفرز التطرف والتكفير
حالة الغلو والتطرف يجب أن تناقش بشفافية مع أولئك الذين يؤمنون بمشروعية التكفير والاستباحة. والتكفير يعود إلى أسلوب في التفكير يقوم على أساس البحث عن أدنى احتمال يمكن أن يؤدى إلى الحكم بتكفير المسلم، والحكم أيضاً بتكفير من قدّم معونة لمن سبق عليه الحكم بالكفر مزاجياً، وتجويز القتل على أثر هذا الحكم، وهو ما يتعارض مع العقل والكتاب والسنة، ويستلزم تكفير أئمة السلف. وموقف الغلاة من غير المسلمين يتجاهل ويرفض ما اتفق عليه الأئمة من «ديار الأمان»، ويرون أن الدنيا كلها دار حرب. وهذا أيضا ما يتعارض مع نص القرآن والسيرة النبوية.وهذه الحلقة الثانية:
وقد دعاهم ذلك إلى تبديع بل تكفير جمهور المسلمين السائرين على منهج الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (260- 333هـ) ومنهج الإمام أبي منصور الماتريدي (268-000هـ) ، اللذين قيّض الله منهما نصيراً للقرآن والسنّة، ومنهياً لفرق الفتن الضالة ولغوهم وابتداعاتهم، وذلك بإجماع أئمة التفسير والحديث والفقه في ذلك العصر. ومن والمعلوم أنهم جميعاً استنصروا بمواقف الإمام الأشعري وانتصروا لها، بعد العزلة التامة التي كانوا قد ألزموا أنفسهم بها، تجنباً لصراعات تلك الفرق وخصوماتها. ومن ثمّ أطلقوا عليه لقب: نصير السنة والجماعة. وقد علم كل من كانت له دراية بتاريخ التشريع الإسلامي والفرق، أن كلاً من الإمام الأشعري والإمام الماتريدي لم يختلق فرقة، ولم يبتدع في العقيدة مذهباً، وإنما قضى كل منهما علىفقاقيع الفرق، ووقف كالطود في وجه البدع والمبتدعين، وعبّد النهج الذي ترك عليه رسول الله(ص) أصحابه.
فأهل السنّة والجماعة الذين كان للإمام الأشعري والماتريدي فضل حمايتهم من لغو الفرق، وكان لهما قصب السبق في إنهاء فتنتها والقضاء عليها، يحكم هؤلاء المتطرفون عليهم بالابتداع بل بالكفر حكماً جماعياً دون الاعتماد على أي شاهد أو مبرر، إلاّ أنهم اجتهدوا كما اجتهد كثير من السلف فأولوا طائفة من آيات الصفات وأحاديثها التي يوهم ظاهرها التجسيد والتشبيه والتكييف، ومعلوم أنّ ذلك كله محال على الله عزّ وجلّ.
وتتجلى عشوائية هذا الحكم وعدم استناده إلى آثارة من علم، في أنه يستلزم تكفير كثير من أئمة السلف المشهود لهم بالعلم والاستقامة على الحق. إذ إنهم أولوا كثيراً من آيات الصفات وأحاديثها. ومنهم الإمام أحمد رضي الله عنه. وقد أطال الخطابي في بيان هذا في شرحه لسنن أبي داود، عند شرحه لحديث: «ضحك ربكما الليلة من فعالكما».
وقد بات من المعلوم أنه ما من بلدة أو قرية داخل عالمنا الإسلامي وخارجه،
إلا وتعاني من آثار هذا التكفير العشوائي والجماعي الذي لا مستند ولا معنى له، وهو واحد من مظاهر الغلو والتطرف في دين الله عز وجل.
وأمّا طريقة التعامل مع غير المسلمين، فمن المعلوم لكل من يتمتع بزاد من الدراية الفقهية، أن الديار العامرة في الدنيا تنقسم إلى دار إسلام ودار كفر. وتنقسم دار الكفر إلى دار عهد وأمان ودار حرب.
أمّا دار الإسلام فهي البلدة أو الأرض التي دخلت في منعة المسلمين وسيادتهم، بحيث يتأتى لهم إظهار إسلامهم فيها والامتناع عن أعدائهم، سواء تم ذلك بفتح وقتال، أو بسلم ومصالحة( ).
غير أنّ في «الإسلاميين» من يصرون على تجاهل ما اتفق عليه الأئمة في تحديد معنى دار الإسلام، وعلى أن يضعوا للكلمة معنى آخر يتفق مع غلوهم وتطرفهم، وهو ما يصرون عليه من أن دار الإسلام هي التي يكون فيها المجتمع مطبقاً لجميع الأحكام الشرعية من معاملات وحدود وغيرها. فإن لم تطبق فيها هذه الأحكام، كما هي الحال في معظم البلاد الإسلامية، فإنها تعود بذلك دار حرب. وهذا يعني – فيما يذهبون إليه – أن على المسلمين أن يحاربوا القائمين على الأمور فيها، أو أن يهاجروا منها!!.