خصوصيةِ الصوت الشعري
عبدالرقيب مرزاح الوصابي
تقوم تجربة الشاعر/ محمد حسين هيثم الشعريةِ؛ على خصوصية الصوت؛ إذ كلُّ قصيدةٍ من قصائد الشاعرِ تقدِّمُ تجربةً خاصةً ومقترحاً جديداً لكتابةِ الشعرِ؛ أي أنَّ التجربةَ الشعريةَ هاهنا تعتمدُ التجريبَ والتنويعَ؛ وتُعلي من شأوهما، وتحاولُ جاهدةً تجريبَ كلِّ أشكال الكتابةِ في إطارِ التجربةِ الشعريةِ؛ ولعل انفتاحَ الشاعرِ على تجارب الشعراء الآخرين؛ والإفادةِ من تقنياتِ الكتابةِ الأجدِّ؛ قد منحَهُ الكثيرَ من الأسرارِ بغيةَ الوصولِ إلى بناء شعريٍّ متميِّزٍ يعتمدُ ابتكارَ بناءٍ هندسيٍّ للنصِّ الشعري مستفيداً من التجاورِ الذي يجمعُ بينَ الموروثِ وهضمهِ فهماً والوافدِ/ الجديدِ ؛ وهو ما يجعلُ الشاعرَ/ هيثم؛ ممتلئاً بالشعرِ وممتلئاً بالثقافةِ؛ يُحيطُ علماً ودرايةً بكلِّ ما حولِهِ؛ ويجعلنا في ـ الآن ذاته ـ أمامَ شاعرٍ عالمي النظرةِ؛ إنسانيِّ المشاعرِ؛ يحاولُ ويحاولُ معَ كل قصيدةٍ أن ينفردَ بصوتِهِ وأن يبتعدَ عن القطيعِ؛ وبما يؤكدُ مدى احتياجِنا الدائمِ لكلِّ الجمالِ الفائضِ عن صوتِهِ الشعري؛ الذي لا يألفُ التكرارَ أو التشابه؛ وإذا كان الرجلُ هو الأسلوب الذي يتفردُ به؛ ويميِّزه عن الآخرين؛ فإنَّ الشاعرَ / محمد حسين هيثم ـ بالمعنى الإبداعي الخلّاق ـ رجلٌ كثيرٌ وأساليب شتَّى؛ تؤكدُ فرادةَ البصمةِ؛ وخصوصيةِ الصوتِ الشعري.
ولعل وقفة على قصيدةِ ” رجل ذو قبعة ووحيد ” تؤكدُ صحة ما ذهبنا إليه ؛ وتشف في الوقت ذاته عن ملامحِ التجريب والتي تتجسد فيما تشهده لغة القصيدة من انحرافات امتدت لتشمل شكلها ورؤيتها ؛ إذا لم يحرص الشاعر/ هيثم على تفجير اللغة فحسب ؛ وإنما جعل من إشكالية هذه اللغة محوراً رئيسا وموضوعاً للقصيدة ذاتها؛ يقول الشاعر :-
رجل ذو قبعة ووحيد
منذورٌ لمراوحة صاعقة
في الجمر الدبق الراجف والمرجف
مطلولٌ دمه الناصع
بين دهاليز الرعشة والخفقان .
رجل ذو قبعة ووحيد
رجل ذو خَفَرٍ
يتوارى باستحياءٍ
يتسلل في الخلسة
يستخفي بين عواميد الرعدة
في الطرق الضيقة العارمة الجيشان
يدخل الشاعر مفرداتٍ جديدةٍ من معجم الواقع إِِلى القصيدة تارة ؛ ويطعمها بمفرداتٍ من عمق المعجم التراثي ؛ بعد أن ينفخ فيها من روحه محاولاً ـ بذلك ـ تحقيقَ إضافةٍ مخالفة تسجلُ بها القصيدةُ الشعريةُ وجودها تارة أخرى؛ ولعل كل ذلك يظهر رغبة حقيقية لدى الشاعرِ لتفكيك الجماليات السائدة في القصيدةِ التقليدية وإعادة تشكيلها وفق نظرةٍ جماليةٍ مختلفةٍ..
يقولُ الشاعر :-
رجل ذو قبعة ووحيد
تتهدل – من مللٍ وقفته
يسترخي في مقعده
يغفو
ويهب على عجل
ليحي امرأة ً عابرةً
أو ينهض
كي تسترخي في مقعده امرأة أخرى ..
رجل جنتل مان .
فالرجل الوحيدُ الــ تتهدل من ملل وقفتُهُ ؛ رجلٌ فاعلٌ وحيوي ؛ أثره ملموس ودينامية فعلِـــهِ لا تخفى ؛ بل تتنامى وتتصاعدُ فهو مختلفٌ ” يسترخي ؛ يغفو ؛ ويهبُّ ؛ ويحيي ؛ ينهض ” ولعل هذا ما يجعلُ الوصول إلى الناتج الدلالي في القصيدةِ مبنياً على التوهم ؛ وهو ما يجعل القصيدةَ ـ في الآن ذاته ـ نصاً مفتوحاً
أي أنَّ القارئ سيتجهُ صوبَ مجموعةٍ من التأويلات التي تنظر في النص بوصفه مجموعة من الطبقات الدلالية المتآزرة، والتي يرفد بعضها بعضاً، ذلك أن مهمة المعنى الأول الإشارة إلى المعنى الثاني ؛ وهذا ما يتنامى بعد قراءةِ كل مشهدٍ من مشاهدِ القصيدةِ ذاتها ؛ وحيث يظل الإلهام النابع من الأساطير والفولكلور فكرة أساسية مُنسَّـقةً يقول الشاعر :-
رجلٌ ذو قبعةٍ ووحيدٍ
رجلٌ بكرامات ونذور وشموع وبخور
رجل يحيا فيموت فيحيا
رجل تتسقط أخبار قيامته :
المرأة ذات الكاذي
والأرملة العبلة
والعانس من ثقب الغفلة
وامرأة القاضي
والعاقر بنت أب معشار
ونساء المفرج
والقوادة
والناهد في الصف الثامن
والطالق من كوتها
وأميمة بنت وزير الأقبية المنسية
والبنت الحلوة من منعطف الحي
الثاني
وسبايا خيل الأعمام
وراشيل اللثغى
وحريم الحمام الشرقي
والحرة إذ تأكل ثدييها
” وديانا الصبرية ” بائعة القات
وبياعات الخبز بسوق المُلح
وعشتار النجمة
والحبشية حتو
والمهرة ذات الجعد الهندي سويتا
وبنات ملوك الجان .
فالرجلُ الوحيدُ كما يقولُ المشهدُ الشعري الآنف؛ رجلٌ متعددٌ ومتنوعٌ ؛ مختلفٌ عن الآخرين ؛ ولعل هذا سرُّ كآبتهِ وعزلتِهِ ؛ إذ أنَّهُ ” رجلٌ بكرامات ونذور وشموع وبخور؛ رجل يحيا فيموت فيحيا ؛ رجل تتسقط أخبار قيامتِهِ كلُّ النساءِ ” وقد يكونُ الاختلافُ مُخبأ، أو قد يتسرب إلى ما قد يبدو إطاراً لعالم حقيقياً، وهنا تظهرُ عبقريةُ الشاعر في رسمِ الشخصيات عبر استخدام هذه العناصر، حتى إننا لنراها كاملةً في إطارٍ لعالم خيالي، حيث تكون هذه العناصر جزئاً من هذا العالم . وأجزمُ أنَّ تحديدَ المعنى في هذه القصيدةِ لا يُوقفُ مجموعةً من التفسيرات التي تلاحِقُهُ؛ ولعلَّ هذا ما سيتضح لنا كلما أمعنَّا الغوصَ العميقَ في تفاصيلِ القصيدةِ ؛ فــ ” الرجلُ المختلفُ / مثار النسوةِ ” في المقابلِ رجلٌ سيءُ الطالعِ ” رجل ذو ريبٍ ؛ يترصده عسس ووصايا؛ رجلٌ ذو حيثياتٍ وبألقابٍ شتى ” ؛ ولعلَّ المفارقةَ هنا بوصفها أسلوبا من الأساليبِ الجماليةِ قد منحت القصيدةَ الكثير من التميز والاستقلاليةِ؛ بل أنَّ التصادمَ الملحوظُ بينَ ما هو واقعٌ وما هو متخيلٌ في القصيدةِ ؛ يجعلُ القارئ في دهشةٍ كبرى ؛ ويفتحُ أمامَ عينيهِ فضاءاتٍ شتى للتأويلِ؛ سعياً للتأملِ في حيثياتِ هذا التصادم؛ وبما يخلقُ مسافةً من التوترِ تمنحُ القصيدةَ خصوصيةً تسمحُ للقارئ بأن يـُحلقَ في فضاءاتِ هذا النص، ويصل معه إلى غايةِ المتعةِ والإثارةِ والتشويقِ ؛ يقولُ الشاعرُ: –
رجل ذو قبعة ووحيد
رجل ذو حيثيات وبألقاب شتى
تتساءل عنه بنات الغيم
وتستفسر بنت الجيران :
من هذا الواقف محشواً بفداحته
مستوحش بين الأعشاب الليلية
هذا الملتبس الآن علينا بملاسته ووعورته
الشاهق في وقفته
الراعد في طرقته
المنتفض الولهان
ويحقًّ القولُ هنا؛ إنَّ مفارقات القصيدةِ ليست مجرد مقدماتٍ عفويةٍ ؛ أو تعبيراتٍ جاءت بمحضِ المصادفةِ لترضي غرور القارئ على أنها انعكاسات لأفكار في مواجهة الناص ؛ بل إن كلَّ أشكالِ (المفارقة) خفيةٌ ، حتى يتم إعادة بنائها بمعانٍ مختلفة عن المعاني السطحيةِ ؛ هناك إذ كلُّ تأويلٍ يتصلُ بما سبقهُ من تأويلاتٍ
واستنادا إلى ما سبق لا يكون الكلام واحدا ، بل متنوعاً تتضاعف حوله دلالات ذات طابع تجاوزي ، ودلالات أخرى يمكن قراءتها بشكلٍ مختلفٍ؛ حيثُ يأتي المقطعُ الأخير من القصيدة مختتما ليس للقصيدةِ وحدها في ما يبدو ، بل لعددٍ من قصائد المجموعةِ الشعريةِ ؛ وهو ما يعززُ غلبةَ حضورِ ” اسمِ الفاعلِ والإيقاعِ الصرفي الناجمِ عن تكرارها ” وكأنَّ القصيدةَ تضفي على مشهدِها الأخيرِ إيقاعاً يتوازى مع مجموعِ الصفاتِ الــ تلتصقُ برجلٍ ذو قبعةٍ ووحيدٍ فهو ” الواحد والمستوحد؛ لا يشبه أو يشتبه ؛ الناهض في كل هبوب عطري ؛ القاهر كل فلاة بكر ؛ لا يدركه لوم أو نسيان ؛ الجبار الفاتح كل الأسوار ؛ الكائن في الأسرار؛ المانح دمعته للأنثى؛ النابش كل زلازله ؛ الفالق فوهى البركان ؛ الذاهب والآيب في الوقد ؛الرافع أعمدة الشهد ؛ الباترُ في الغمدِ ؛ الملكُ النشوان ” .
إنَّ تتابعَ اسم الفاعلِ كصيغةٍ صرفيةٍ تشفُّ عن طبيعةِ الملامحِ النفسيةِ للــ ” أنا ” الواثقةُ باكتمالاتها و فرادةِ تحليقها ؛ كما أنَّهُ لا ينفي أيَّ تأويلٍ سيأتي لينفتحَ على ما سبقهُ من تأويلاتٍ ؛ قد يصِلُ عندَ بعضِ تجلياتِها حدَّ علاقةٍ جنسيةٍ منجبةٍ …