في ذكرى جواب العصور
على أشرعة الفن الخالد وسفائن الكلمة الشاعرة أبحر عزاف الأسى في محيطات الحياة وأنهار الزمن سبعين خريفا بين عامي (1929 ـ 1999م) وبين الرابعة والسادسة من سنوات رحلة الإبحار صارع عبدالله البردوني أمواج الحزن وعواصف المرض لينتهي الصراع بانتصار الجدري عليه فينتزع بصره ويتركه يمخر عباب الرحلة بلا عينين في مجتمع ضرير لا مكانة فيه حتى للمبصرين.
ولئن كان العقدان الأولان من عمر الرحلة محفوفين بالجوع والفقر وضيق الحال وسائر المتاعب والمنغصات المعيشية فقد كانا من الناحية العلمية سنوات خصيبة ارتشف خلالهما الشاعر كؤوس المعرفة فحفظ القرآن على القراءات السبع المتواترة ولم يكتف بالمنهج المقرر على طلاب المدرسة الشمسية في علوم الشريعة واللغة التي كانت تدرس آنذاك بل كان يطلع على كل كتاب يصادفه وبدأ يهمهم بالشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره.
لم ترو ظمأه المعارف التي تلقاها بالمدرسة الشمسية في ذمار فانتقل إلى المسجد الكبير بصنعاء وفيه عانى ما عانى من شظف العيش ثم انتقل إلى مدرسة دار العلوم فتلقى فيه العلوم والمعارف المقررة وحصل منه على إجازة في ( العلوم الشرعية والتفوق اللغوي) ثم عين مدرسا للأدب العربي شعرا ونثرا في المدرسة العلمية نفسها .
وفي مطلع العقد الرابع من عمر الرحلة أطلق الشاعر صوت الإبداع (من أرض بلقيس ) يحاور فلسفة الفن وفن الفلسفة وحين تكتنفه حيرة الساري في الليل الحزين يتلمس (في طريق الفجر) الإشارات التي يستهدي بها إلى ملامح (مدينة الغد) وتتجاوز سفينة الرحلة حدود المحلية إلى آفاق إنسانية رحبة وتحتفل بقدومها العواصم العربية واللغات الأجنبية فتحصد الأوسمة والجوائز الدولية والعالمية.
لقد وصلت الرحلة بعزاف الأسى إلى نهاية الشاطئ لكن كلماته الشاعرة استطاعت أن تتمرد على عالم الصمت فقد أسقاها من روحه أكسير الحياة كي تظل وارفة الظلال دائمة الحضور تقهر النسيان وتستعصي على قوانين الغياب ونزعات التغييب ولعل من أهم الملاحظات التي يمكن أن يلاحظها المتلقي بسهولة ويسر ــ ونحن نعيش أيام محنة العدوان السعودي على اليمن ــ هي أن كلمات البردوني تشكل حضورا فاعلا أكثر من الشعراء الراحلين والأحياء على حد سواء فمن أين اكتسبت كلماته هذا الحضور الفاعل والمتميز ¿
ومع إيماننا بأن الإجابة على هذا السؤال الكبير لا يمكن أن تستوعبه مساحة هذا العمود ولا حتى صفحات بأكملها فإننا يمكن أن نشير إلى شيء من الإجابة بومضة خاطفة ومركزة تتلخص في أن الشاعر البردوني قد استطاع أن يقيم جسرا إبداعيا رصينا بين الفن والموضوع فالبردوني من الناحية الفنية ــ كما يقول أستاذنا الدكتور المقالح ــ رغم محافظته على الأسلوب البيتي/العمودي في القصيدة يعد شاعرا مجددا ليس في محتويات قصائده فحسب بل في بناء هذه القصائد القائم على تحطيم العلاقات اللغوية التقليدية وابتكار جمل وصيغ شعرية نامية فاستطاع في كثير من قصائده بما فيها من صور حديثة أن يقفز إلى نوع من السوريالية تصبح فيه الصورة أقرب ما يكون إلى ما يسمى باللا معقول.
أما من الناحية الموضوعية فقد آمن البردوني بأن الشاعر الحقيقي محكوم عليه ـــ كما يقول رامبو ـــ ( أن يلتقط إجهاش المهانين وحقد السجناء وصيحات الملعونين بأشعة حبه اللاسعة) فتمثلت أشعاره أوجاع المقهورين وصراخ الجائعين وأنين اليتامى وعذابات المشردين في أصقاع الأرض وظل ينازل الحكام المستبدين ويفضح خونة الوطن وعملاء الخارج ولعل من أشعاره الأكثر دورانا بين جماهير الشعب اليمني هذه الأيام هي تلك الأبيات التي يصور فيها حال مرتزقة الرياض في سبعينيات القرن الماضي التي يقول فيها:
أمير النفط نحن يداك نحن أحد أنيابك
ونحن القادة العطشى إلى فضلات أكوابك
ومسؤولون في (صنعا) وفراشون في بابك
ومن دمنا على دمنا تموقع جيش إرهابك
لقد جئنا نجر الشغب في أعتاب أعتابك
ونأتي كلما تهوى نمسح نعل حجابك
ونستجديك ألقابا نتوجها بألقابك
فمرنا كيفما شاءت نوايا ليل سردابك
نعم يا سيد الأذناب إنا خير أذنابك
فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري.