الـجـاوي وصـمـت الاصـابـع
محمد عبد الوهاب الشيباني

• قليلون هم الذين عرفوا ان النصوص الشعرية العديدة التي نشرت في مجلة الحكمة والثقافة الجديدة و14 اكتوبر واليمن الجديد في سبعينيات وثمانينيات القرن المنقضي وكانت توقع تحت اسم (ذو نواس) لم تكن سوى للمثقف الوطني (عمر عبد الله الجاوي 1938ـ 1997) لان المتحقق الكتابي والمتعين الواضح في مسيرة الرجل كانت تختزلة ككاتب سياسي مختلف مشكلا في حضوره الصاخب امتدادا لافتا لمدرسة الاحرار اليمنيين الذين زاوج منتسبوها بين انصرافاتهم الثقافية ـ كشعراء وكتاب ـ وهمومهم الوطنية (كمناضلين) ضد منظومة الحكم الثيوقراطي المنغلق في الشمال اليمني وضد الحكم الاستعماري السافر في الجنوب اليمني . فكان المتواري كثيرا في هذه السيرة هو الشاعر الذي ازداد استتارا خلف المرموز الاشكالي في تاريخ اليمن القديم (يوسف ازار ـ احد الأدواء الحميريين / صاحب محرقة نجران ـ ذو نواس الحميري .
لكن التكشف والابانة الكاملة لمنجز هذا الشاعر ستكون بعد رحيله بستة اعوام بصدور مجموعته الشعرية اليتيمة التي حملت عنوان (صمت الاصابع / منشورات اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين عام 2003) والتي بذل فيها الشاعر الراحل (عمر محمد عمر) جهدا بائنا لترى النور ـ اشار في تقديمها للكثير مما احاط جمعها ونشرها في كتاب شعري سنعتمد عليه بدرجة رئيسة في هذه القراءة العابرة ـ التي انجزت على عجل لمناسبة ذكرى رحيله السابعة عشرة والتي تصادف 23 / ديسمبر من كل عام).
النص الاول في المجموعة والذي حمل عنوان (خواطر عكفة) اشير في تذييله الزمني انه كتب في العام 1955 وهو عام انتقاضه الثلايا وجنوده في تعز غير ان الصيغة النهائية للنص ستتم في اواخر الخمسينيات وتحديدا في العام1959 ـ وفق التذييل ذاته .
فالشاب الذي لم يتجاوز عمره السابعة عشرة لم يجد امامه سوى ادوات الشاعر للتعبير عما يعتمل بداخله حيال موضوع يشغل تفكير الكثيرين وهو علاقة العسكري بالمواطن ـ غير ان التعبير السياسي عنه بوضوح سيكون بعد اربعة اعوام حين سينتقل الطالب المبعد من القاهرة الى موسكو فيعيد صياغة النص المكتوب بمقتربات انسانية واضحة ستتعاكس مع النظرة الكلية عن العسكري البسيط الذي اقترن حضوره في حياة الفلاحين وقبل هذا في الذهنية الشعبية بوصفه الانموذج المكتمل و الواضح للحظة الاعتساف لنظام الحكم الامامي .
الشاعر الذي سيلبس (قناع المتكلم) في النص سيختصر معاناة العسكري مع النظرة التي قامت بشيطنته ـ بما فيها قول الزبيري المأثور( العسكري بليد …..الى اخر البيت) ليكتب:
ثقل الخطوات
والليل المفزع والآهات
يقذفني جبل كي يهدمني الف جبل
دون امل
الا رعب الكلمات
السنة الناس النارية
تزرع دربي شوكا فوق الشوك
تدمي وجداني المنهوك
الاعين ترمقني سخرية
……………….
يحزنني ان تبكي يا طفلا
ان تسمع اسمي
ان تشهد رسمي
لا
لست المقلق نومك
لم اشرب دمع ابيك
لم اسبيك.
وحين تأخذنا المقارنة الى نص آخر ـ سردي ـ انجزه الراحل محمد عبد الولي في ذات الفترة تقريبا وتضمنته مجموعته القصصية الاولى (الارض ياسلمى) الصادرة ببيروت مطلع ستينيات القرن الماضي سنجد ثمة مؤثرات ومشغلات سياسية وجمالية جعلت من رفيقين وصديقين تلازما في (القاهرة وعدن وموسكو) ينتجان نصين ابداعيين متقاربين زمنيا يحفران بعيدا في العمق الانساني لكائن قادته الظروف ليكون عسكريا مذموما لان انسانا مثل هذا سيغدو هو الاخر ضحية للمجتمع والنظام السياسي. ومما جاء في نص محمد عبد الولي (ياخبير) :
(اسمع يا خبير انت رعوي هانا في القبيطة وانا رعوي هانك في حاشد. معي بيت وعائلة ومره واولاد ما شاء الله لكن مامعانا (بيس) … ما معانا ارض … هانك المشايخ اخذوا الارض ..اصبحنا عساكر ندور على رزق على لقمة ..قالوا الحجرية فيها ذهب ..جينا هانا اقسم بالله ما في الا الطمع والنهب والحسد .. كل رعوي يشتي ينهب صاحبه.) ـ محمد احمد عبد الولي /الاعمال الكاملة ص 52/ قصة (ياخبير) من مجموعة (الارض ياسلمى) الهيئة العامة للكتاب / صنعاء 2012.
(****)
المشغلات الكتابية في مجموعة (صمت الاصابع) التي غطت نصوصها ثلاثة عقود وقليلا حسب التثبيتات الزمنية لنصي المفتتح والختام فكما قلنا كتب نص (خواطر عكفة ) اول مرة في 1955 اما نص (بعد ماذا¿) فقد كتب بعد يناير 1986توزعت على ثلاثة موضوعات رئيسية هي الوطني والعاطفي والجمالي ـ ان صح توصيف مثل هذا للأخير ـ واختزل الموضوع الوطني حضور الشاعر وانغماسه بعمق اللحظة السياسية الضاجة وخصوصا ارهاصات الثورة اليمنية وتحولاتها اللاحقة التي افضت الى الوحدة التي كان الشاعر احد الاصوات