الهوية بين الحلم والتاريخ
هشام علي

في رواية “بخور عدني” يطرح الروائي والشاعر علي المقري عددا من القضايا المتشابكة والمتداخلة والمجتمعة بصورة تفاعلية كيميائية عجيبة بحيث يصعب على المرء تفكيك هذه العناصر المتفاعلة والحصول على كل قضية على حدة ثم ملاحقة نموها وتطورها خلال الرواية وما تمثله كعنصر من عناصرها.
هل يمكن القول إن المؤلف قد قام بعملية الرد وخلط الحكايات وفي الوقت ذاته كان يقوم بعملية إنتاج البخور العدني وخلط مكوناته المتنوعة والعمليتان كلتاهما تمثلان عملا إبداعيا تحتل المخيلة فيهما دورا متميزا وهو ما يجعل هذه التفاعلات مختلفة عن التفاعلات الكيميائية التي لا مجال فيها للتخييل.
على أساس هذه الفكرة نستطيع أن نفتش عن عناصر الاختلاف التي تحملها هذه الرواية فالقيمة الرئيسية في الرواية تتعلق بعلاقة الشرق والغرب وهي تسرد حكاية شاب فرنسي داخل مدينة عدن وهي تتعلق من جهة أخرى بالآخر وبالهوية ووسط هذه القيم الأساسية ينشأ فضاء المدنية ومكوناتها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية.
نحن إذن أمام سردية كبرى شكلت ثقافتنا العربية وارتبطت بفكر النهضة وعلاقة الشرق بالغرب وفي داخل هذه السردية الكبرى ظهرت علاقة المثقف بالغرب ومشكلة الفوات الحضاري التي عبر عنها كثير من المثقفين والأدباء من رفاعة الطهطاوي وكتابه الشهير (تخليص الأبريز في تلخيص باريز) وكتاب توفيق الحكيم (عصفور من الشرق) وأيام طه حسين وحتى رواية سهيل إدريس (الحي اللاتيني) و(موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح وقصة (حب مجوسية) لعبدالرحمن منيف وغيرها من الروايات العربية التي تعرضت لإشكالية الشرق والغرب وفي هذه الروايات يكون الغرب هو الفضاء الروائي الذي يتحرك فيه أبطال الروايات وغالبهم من المثقفين العرب الذين يتماهون مع ثقافاته وعاداته وتشكلت في سياق هذه الروايات علاقات تثاقف قامت في غالبها على هامش الاستعمار والجنس وأخذت شخصيات الأبطال صورا نمطية نموذجية سواء في علاقتهم بالآخر المتقدم والمستعمر في آن أو في مشاعر التحدي التي تولدت في نفوسهم بسبب ذلك الآخر الذي أرغمهم على تقليده رغم شعورهم برفضه كما فجر فيهم أسئلة الذات والهوية والتقدم والتأخر وغيرها من الثنائيات التي كانت مادة أساسية في مشروع النهضة.
تختلف رواية (بخور عدني) عن هذا النمط السائد في الرواية العربية رغم أنها تنزل معهما في نفس التنزيل الإشكالي لعلاقات الشرق والغرب والهوية والاستعمار والنهضة والتمحور وغيرها.
فأحداث الرواية لا تجري في بلد من بلدان الغرب ولكن وقائعها تجري في مدينة عدن اليمنية العربية المستعمرة البريطانية التي كانت تضم أجناسا من البشر وألوانا من الديانات والعقائد والطقوس وكان موقعها الجغرافي كميناء عالمي شهير بين الشرق والغرب قد جعلها مدينة كوسمو بوليتانية متنوعة الثقافات والعادات ومحطة لكثير من الهجرات التي حرص أصحابها على توقيع أسمائهم وتخليد حضورهم في كثير من الحكايات والأساطير والأماكن وقد ارتبط عدد من الداخلين إليها بحكايات متخيلة وأساطير منشأة وأصبحوا بعد ذلك معالم شهيرة من معالم المدينة فالشيخ العيدروس الذي ارتبط مجيئه إلى عدن بحكاية جمعت الواقعي بالمتخيل حيث كانت عدن حينها تعيش مجاعة وقحطا وما إن وصل العيدروس إلى شاطئ صيرة حتى أمطرت السماء وجاءت سفن التجارة وشبع الناس بعد سنوات الجوع وتحول الشيخ العيدروس إلى شخصية أسطورية مباركة يزور مقامه الناس في زيارة تقام في كل عام ويردد الأطفال أناشيد تخلد حكاية دخوله إلى عدن التي جاءت بالخير والمطر.
وسوف نعثر على حكاية الشيخ العيدروس داخل هذه السردية الكبرى لمدينة عدن التي تمددت وانتشرت بواسطة أفواح البخور العدني الذي يتحول من رائحة جميلة إلى روح تعبر عن المدينة وتمثل هويتها المركبة.
ومدينة عدن كما تظهر في الرواية ليست فضاء للسرد أو مسرحا للوقائع والأحداث التي تجري خلال مرحلة زمنية تمتد من بداية الأربعينيات وحتى الستينيات من القرن الماضي هذا الزمن يتشظى بين باريس حيث ولد بطل الرواية وعاش حتى مرحلة الشباب وبين عدن التي دخلها وعاش فيها في ما يشبه الحلم الحلم هو أحد المفاتيح الأساسية في هذه الرواية أو أنه المفتاح الرئيس الذي يلجأ إليه الراوي ليفتح مسار السرد المتعلق هناك أحلام كثيرة في الرواية أحلام لا تظهر في المنام ولكنها تتحرك وتتداخل مع الواقعي واليومي والعادي إن بطل الرواية ميشيل الفرنسي يخرج من حلم من أحلام ماما الذي رأته قبل أيام من وصوله إلى عدن وماما هي الشخصية الرئيسية الثانية في الرواية وهي تنازع البطل في سرد الحكاية وامتلاك أسرارها ومفاتيح تلك الأسرار.
لقد أمسكت ميشيل من يده وخرجت به من فندق كريسنت بعد أن سمعت حواره مع موظف الاستقبال قال له إن اسمه “أي شيء” وهو لا يحمل أية وثائق سفر ولا يتذكر من أين جاء كانت
