الهروب الجماعي ¿!!
جمال الظاهري
الهروب من المعارك الكبيرة التي تحتاج إلى وفرة من القيم النبيلة والأخلاق العالية وقبلها إلى تخمة من الوطنية هي سمة العصر .. فحين تضع الأحزاب والتكتلات والمنظمات والأنظمة العربية في استراتيجيتها المستقبلية أهدافا بحجم القومية أو الأممية أو الإسلامية أو حتى الوطنية (القطرية) فإن ذلك ليس أكثر من مانشيت لخبر في صحيفة أو إصدار تستخدمه للتبرير أو للمغالطة أو لستر العورة.
نعم إنها أكبر كذبة عشناها في الخمسة عقود الأخيرة .. انكشفت بصورة جلية في العقد الأخير بالضبط من بداية الألفية الأخيرة .. حين استخدمت كل هذه اليافطات الهلامية بفعل الممارسات في تدمير الأوطان والأخلاق والعادات والقيم والأخلاق والهمم الجماهيرية التي لطالما تغذت أحلامها كل صباح بتلك العناوين التي كانت تدغدغ عواطف وأماني الشعوب الإسلامية والعربية على وجه الخصوص.
هذه الوجبات الصباحية والمسائية .. الخلافة الإسلامية وعودة هيلمانها وامبراطوريتها الممتدة من السند إلى الأندلس .. القومية العربية .. من المحيط إلى الخليج.. نزولا إلى استرجاع فلسطين واستحضار بطولات ومعارك الأيوبي صلاح الدين .. رمي إسرائيل في البحر .. الطوق العربي والحصار الاقتصادي لإسرائيل .. تدعيم بوابة العرب الشمالية الشرقية (العراق) .. مقاومة النفوذ الإيراني وإعلان الحرب عليه .. حتى حضرت الربيعيات فانقسمت الأنظمة والشعوب وحتى الأسر حول الغاية والوسيلة والهدف والمشروع وغير المشروع ..
أين ذهبت تلك الأحلام وتلك العناوين وذاك الخطاب¿ .. ذابت جميعها وتوارت خجلا أمام عجزنا وانقلبت علينا ويلات .. تقزمت المعارك الكبيرة مع الخصوم التاريخيين إلى حروب بيننا وانكمشت الأوطان الافتراضية التي روجنا لها إلى أوطان عرقية عصبوية وتحولت الأحلام الأممية إلى استقطاب عرقي ومناطقي وقبلي, وتحول الطموح الديني والثقافي الإنساني الأممي إلى استحضار ثقافة عصبوية مذهبية وفئوية وسلالية !.
انقلب الطموح التحرري إلى تكتلات دكتاتورية في إطار الهوية الجزئية على مستوى مناطق الوطن والمعتقد الواحد!.. انتقلنا من ضفة المواجهة مع العدو وأدوات غزوه الثقافية إلى خطوط التماس الداخلي, غيرنا وجهة بنادقنا بقصد أو بدون قصد وانطلقنا بقوة لخوض حروب أعدائنا بالنيابة, فمن مواجهتنا مع الامبريالية وطموحها قدمنا أنفسنا أدوات تستخدمها لسحقنا عسكريا واقتصاديا ومجتمعيا..
استقدمنا العدو وفتحنا أراضينا لقواعده تحت مبررات واهية – معاهدات دفاع أو حماية- حماية ممن¿ من بعض من غذيناه ومديناه بالعدة والعتاد وشجعناه على العصيان والتمرد والقتل والتدمير بمساعدة دول الاستكبار والاحتلال القديم الجديد .. قبلنا بالأدوار الهامشية في أوطاننا وسلمنا مصائرنا لهم .. انقلبت الحقائق فخصوماتنا مع بعضنا واقعة وحقيقة قائمة فيما ما يصدر عنا أو يقال عن خصومة مع الأجنبي ليست أكثر من ذر للرماد على العيون فما يقال عكس ما تقوله الوقائع والأحداث.
فلسطين اختزلت إلى غزة والعراق تقزم إلى الدفاع عن بغداد من الدواعش وبقيته يعيش الاحتراب ومجمله يعيش النزع الأخير من الهوية العربية .. سوريا صارت بلا معلم وبلا أبواب أو حراس بعد سقوط أسوارها كأنها حانة في طريق المسافرين يرتادها كل شذاذ الآفاق وقاطعي الطريق ومنتهكي الحرمات .. ليبيا تصارع وحيدة بلا أخ ولا صديق تبحث عن نفسها بين أكوام وحفر لا نهاية لها¿ ومصر واليمن افتقدتا للحظات الاستقرار والاسترخاء واستولى عليهما الهم الأمني على حساب حاجاتهما المستقبلية توقف الإعمار وانكفأتا على نفسيهما تطببان الجراح وتستعدان لطعنات وخدوش وجراح جديدة ¿!
إنها حالة الفوضى التي ليس لها هدف أو غاية إنسانية ولا يبررها عقل أو منطق أو دين .. إننا كأمة نعيش حالة الضياع بكل ما تحمله الكلمة من معنى .. ضياع في كل شيء وفي المقدمة ضياع المعتقد .. حقيقة واحدة هي التي نعيشها وهي حقيقة الصورة التي أرادها لنا العدو والطامع والشامت .. حقيقة أننا أمة رعاع لا تجيد غير القتل والتدمير والسطو والسلب والحقد والتآمر على كل ما هو جميل في هذه الحياة..