سوق سوداء أم ثقافة سوداء¿!

فتحي الشرماني


 - في بلادنا ترتفع وتيرة الأزمة في المشتقات النفطية, وتتكدس الطوابير لأيام أمام المحطات, ومع ذلك تجد الشوارع تختنق بالمركبات المارة, وكأن الأرض تتفجر أنهارا من بترول وديزل!! ..
في بلادنا ترتفع وتيرة الأزمة في المشتقات النفطية, وتتكدس الطوابير لأيام أمام المحطات, ومع ذلك تجد الشوارع تختنق بالمركبات المارة, وكأن الأرض تتفجر أنهارا من بترول وديزل!! .. أفلا يعني هذا أن السوق المنظورة ما هي إلا نسخة مزيفة وقناعا للسوق السوداء التي هي السوق الأكثر حركة وتداولا ونشاطا, وأن هذه السوق هي السوق الرسمية والحقيقية التي تمون الناس باحتياجاتهم من هذه المشتقات¿
حكاية اليمنيين مع الأسواق السوداء لها تاريخ, وتجذرها في حياتهم جعلها حاجة ضرورة لتسيير عجلة الحياة حتى أصبح انقطاعها يهدد بانهيارات وأزمات حادة تعصف بالأمن والاستقرار .. تذكروا السوق السوداء للسلاح ومثلها للألعاب النارية وأخرى للأدوية المهربة, وغيرها كثير للمنشطات والممنوعات, وللأغذية والسجائر المهربة, وللديزل المهرب إلى أفريقيا, وللكتب المدرسية, وللمواد الإغاثية الخاصة بالنازحين, وللتموينات الخاصة بالقوات المسلحة.. إلخ, وإلى جانب كل ذلك تزدهر اليوم سوق سوداء خاصة بالمشتقات النفطية.
هذه هي حياتنا نحن اليمنيين وعلى هذا النحو تسير, وهذه هي الحقيقة التي يتغاضى عنها الكثير ممن يبحثون عن واقع مغاير للرداءة التي نغرق فيها اليوم ..فنحن مستهلكون ورواد أساسيون لهذه الأسواق السوداء التي أصبحنا رهنا لها بعلمنا أو بدون علمنا .. وحين تجري مضايقة إحدى هذه الأسواق فإننا نشعر لا إراديا بتأزم الحياة وانسداد أفقها لأننا تعودنا التعايش مع هذه الأسواق والتصالح مع مروجيها ومصادقتهم من منطلق (كلها طلبة الله), أما رموز هذه الأسواق وزبانيتها فإنهم هم الآخرون تظلم الدنيا في وجوههم إذا قويت شوكة السوق المشروعة, وربما يدفعهم انقطاع مصالحهم إلى التهور وحبك مؤامرات وارتكاب فظائع تحاول أن تعيد الأوضاع إلى ما هي عليه, وبالتالي فكيف يكون الحال إذا حصل انقطاع كلي لهذه الأسواق¿
إذن لا نبالغ إذا قلنا: إننا أمام هدم متسلسل لكل قيم المواطنة التي تحفظ لجميع اليمنيين حقوقهم باتزان .. فهي حكاية شعب بأكمله تحرك حياته اليومية سوق سوداء واسعة بحجم رقعة الوطن, وهذه السوق تلتهم كل ما يمكن أن يتداوله الناس في وضح النهار بأسعار مشاعة يتنافس فيها جميع الباعة .. ولكن مرت السنوات وأصبحت هذه الأسواق بحكم العادة, وسمحت الدولة لنفسها أن تتعامل معها بوصفها كذلك, فتعملقت هذه الأسواق المحرمة وقوي عود أصحابها, حتى غدا الأمر على ما هو عليه اليوم.
وبحسب فكرة (القابلية للاستعمار) التي تحدث عنها ابن خلدون ومن بعده مالك بن نبي فإن اليمنيين قبلوا أن يتعاملوا مع هذه الأسواق السوداء, وتخلوا عن ضرورة مكافحتها, وإن كانوا يستفيدون منها لتسهيل حياتهم, ولن يصنع اليمنيون تحولهم إلا حين ينتفض الناس – كل الناس – على ثقافة الاحتكار والنهب بوصفه فعلا رجوليا .. حين ينتفض الناس على هذا الإرث المخجل المكرس لكل معاني الفئوية والشللية والطبقية ونسف كل معاني المواطنة والمساواة والعيش الكريم, وحق الجماهير على من يديرونهم ذلك أن التجارة المحرمة لا تتعامل مع الشعوب بوصفهم بشرا لهم حقوق مكفولة وأسواق حرة, وإنما بوصفهم قطعانا تأكل وتشرب وتلبس مما يتفضل به اللصوص.

قد يعجبك ايضا