التكيف.. مع حالات التعديل
عبدالرحمن مراد

مقالة
في سياقات التاريخ المختلفة ظهرت جماعات وطوائف عديدة أفرزتها عوامل الصراع انحرفت بها معتقداتها إلى مزالق خطرة وخدشت وجه الدين وأصوله وعقائده الثابتة ذلك لكون الأنا كما يقول “علم النفس” تقوم بسلطة الإشراف على الحركة الإرادية نتيجة للعلاقة التي تتكون من قبل بين الإدراك الحسي وحركة الواقع ويتركز دور الأنا في حفظ الذات عن طريق تخزين الخبرات المتعلقة بها في الذاكرة وبتجنب المنبهات المفرطة عن طريق الهرب وبالتصرف في المنبهات المعتدلة عن طريق التكيف وأخيرا بتعلم عمل التعديلات المناسبة في العالم الخارجي وفقا لمصلحة “الأنا” الخاصة عن طريق النشاط وهو الأمر الذي حدث في سياقات التاريخ المختلفة ونتج عنه نشوء جماعات وطوائف أحدثت تعديلا في عالمها الخارجي يتوافق ورؤية “الأنا” ومصالحها وما يزال يحدث كما نلاحظ ذلك في جدليات مؤتمر الحوار الوطني وسيظل يحدث طالما وكوننا النفسي تتجاذبه القوى الثلاث المتضادة “الهو” “سلطة الماضي” و”الأنا” “سلطة الواقع” والأنا العليا سلطة المثل والإيديولوجيا.
وباستحضار المماثل التاريخي للحاضر “ككربلاء” مثلا بما تحمله من بعد إنساني مأساوي مدمر نجد أن الذاكرة تمتلئ بمخزون معرفي عن “الواقعة” وبتفاصيل دقيقة وجزئيات مهمة تبعث الإحساس بالألم عن طريق زيادة التوتر الذي تحدثه المنبهات عن طريق الهروب والتكيف وصولا إلى الاحساس باللذة وهو ما يمكن لنا وصفه بالنشاط الحركي المصاحب للحسينيات باعتبارها تعديلا مناسبا كان لا بد من الهروب منه إلى واقع مغاير أو أفضل.
ولذلك يمكن القول أن أنشطة الحسينيات عند الشيعة ذات بعد نفسي عميق تتجاذبه المضادات زيادة خفض ألم لذة تمهيدا للانتقال أو تعديلا للشعور الطاغي بالذنب والمأساة وقد تطور ذلك النشاط بفعل عامل الزمن ليصبح طقسا تعبديا بلغ ذروته بالمزج بين المعنوي والحسي في الوصول إلى الألم.
فكربلاء أحدثت تعديلا لها يتجاوز مأساتها ويتكيف مع مفرداتها ومثلها كل الأحداث التي مرت في التاريخ والتفاوت كائن في قدرة كل حدث في التأثير في البنى العامة للمجتمعات الإنسانية.
وما يحدث الآن في دول الربيع العربي هو تماثل وتشاكل مع كربلاء من حيث المأساة والدم المراق ذلك لأن الهو الماضي ظاهر على “الأنا” الحاضر وغلبة البعد الثقافي الماضوي في المكون العام للأنا تجعلنا نعيش ذات اللحظة التاريخية التي انتجته ونشعر بذات الانفعال تجاهه كوننا لم نصل إلى حالة من حالات التوازن كي تحدث الانتقال الثقافي وتبعا له يحدث الانتقال النفسي لذلك تشابهت مراحل الهروب والتكيف والتعديل فالذي كان يعيبه أرباب السنة على الشيعة وقعوا في دائرته زمن الاعتصامات والثورات التي عشنا تفاصيلها في عام 2011م فقد سمعنا حينها من يقول أن النشاط الحركي المصاحب للشعار السياسي عبادة وكان مثل ذلك عند أرباب السنة من العقائد الضالة ولكنهم أحدثوا تعديلا حين تماثلت الأحداث والدوافع إذ أن الرابط الموضوعي كان متشاكلا من حيث تفجر الحدث ودمويته ومأساويته ومن حيث الخروج واختلال النظام العام والقانون الطبيعي وهو الأمر الذي فرض على الأنا الحفظ في الحالين من خلال إحداث التعديلات هروبا من مخزون الذاكرة وتكيفا مع لحظة زمنية جديدة.
ومن هنا يمكن القول أن الذي حدث في 2011م بملامحه الدموية المتشاكله مع غيره في السياق التاريخي أحدث تشعيبا وتشظيا فالسلفية التي كانت تعزف عن السلطة والتمكين أصبحت تشرعن ذلك بالقول بامتلاك الأرض لتحقيق حاكمية الله فيها وهناك من رأى أن التمكين شرط لإقامة أركان الدين مستندا إلى الدلالة القطعية لنص الآية “41” من سورة الحج وثمة تخريج ظهر زمن تفجر الأحداث 2011م يبتعد عن التأصيل الفقهي وفق قواعده واشتراطاته المتعارف عليها عند الفقهاء ليقترب من تبرير الفعل السياسي كالقول بجواز الخروج بالاستناد إلى حادثة تاريخية لم يجزم أحد بصحتها فالتاريخ ظل ظنيا ولم يرق إلى رتبة اليقين عند جل الفقهاء والقول بالخروج ثابت عند الزيدية والتعديل عند أهل السنة كان لضرورات الحفظ للذات ليس أكثر.
بيد أن ما يستغرب له أن سنة 2011م رغم قدرتها على إثارة المنبهات وقدرتها على التفجير والتوظيف للحدث إلا أنها لم تنتج إلا تفاعلا أصوليا وقد ظل العقل اليساري والليبرالي والحداثي وما بعد الحداثي غائبا في مظاهر الحدث وإفرازاته وفي تفاعلاته وذلك دال على غبن يمكن القول أنه مورس بشكل أو بآخر على العقول ودال أيضا على هيمنة الأصولي والبراجماتي ..