تجليات التراثö في الشعر اليمني المعاصر
فايز البخاري
شكل الموروث الشعبي في كل البلدان أرضا خصبة ونبعا غزيرا وفضاء واسعا يستلهم منه الشعراء رموزهم وأقنعتهم التي تضفي على تجاربهم نوعا من الجöدة وتمضي بها إلى آفاق ثرية وواسعة. ومازال الموروث الشعبي بما يحمله من مخزون ثقافي وفكري يشكöل لدى غالبية الشعراءö المعاصرين في اليمن نبعا متدفقا يرشفون منه كلما طافت بأذهانهم شياطين الشعر من وادي عبقر ليجعلوا من موروثهم سمة بارزة تظهر تجلياتها في نصوصهم التي أتتú مطرزة بالرموز التي تعتمد على تاريخ وثقافة هذا البلد وما يحويه من حكايات وأساطير أعطتú لهذه النصوص أبعادا مختلفة ونحتú بها مناحي عöدة بحيث جنبتها التقريرية والمباشرة وأعطتها مدلولات أخرى انحرفتú بها عن المعنى المباشöر لتجعل من كل نص طاقة دلالية عالية ومكثفة تحمل الكثير ولا تفصöح عنه بسهولة إلا لقارئ مثقف كون النص الحديث أصبح نصا مثقفا نتيجة تحميله بالرموز والأساطير والأقنعة التي لا يكتبها أو ينسجها في نصه إلا شاعر مثقف واسع الاطلاع والمعرفة. وهذا هو ما جعل بعض النصوص تبدو صعبة الفهم لدى الناس ذوي الثقافة البسيطة والتقليدية وفرض على القارئ الإلمام بالثقافة قبل التعامل مع النص كونه لن يستطيع الولوج إلى عالم النص أو التحليق في فضاءات مدلولاته ما لم يبدأ بفهم الشفرات التي تمكنه من تخطي عتبات النص والدخول أو الإبحار في خباياه التي تحوي من اللآلئ والأصداف ما لا يحظى به أو يتمكن من رؤيته إلا قارئ مثقف حصيف الأمر الذي فرض على القارئ الإلمام بالثقافة وفي الوقتö نفسöهö أطلق له عنان الحرية الكاملة في قراءة النص وتأويله وفق معرفته وثقافته بغض النظر عن مؤلفه بحيث يتكون لدى القارئ أو المتلقي بعد قراءة النص نص آخر يختلف باختلاف القراء أو المتلقين وثقافتهم. وهذا لا يعد عيبا في النص الحديث بقدر ما هو محúمدة وميزة كبرى جعلتú منه فضاء واسعا يحلöق فيه الجميع كل بأدواته إلى وöجúهتöهö التي يريدها.
إن النص الحداثي أصبح حمال أوجه وبهذا يكون مرöنا يقبل كل القراءات والتحليلات التي تعتبر بمجملها صحيحة حيث تتكون من ثقافات عدة وبالتالي تأتي مختلفة ومتغايرة.
إننا هنا سنحاول قراءة بعض تجليات التراث في شعر بعض الشعراء اليمنيين المعاصرين وهو ما يبدو لنا واضحا لأول وهلة عند عملاقي الأدب اليمني المعاصر: الأستاذ “عبدالله البردوني” رحمه الله والدكتور “عبد العزيز المقالح” اللذين وعيا التراث تمام الوعي ووظفاه في شعرهما في كل دواوينهما وقد أجادا في كثير منها. ولعل المقطع الآتي لـ”المقالح” يبين ذلك حين يستدعي فيه رمزين عالقين في ذاكرة اليمنيين كلهم وهما “سيف بن ذي يزن” و “امرئ القيس” (الملك الضليل) حيث يقول “المقالح” على لسان “سيف بن ذي يزن” الذي ينادي ملكا مثله هو “امرؤ القيس”:
ذكرت ثورة “الضلöيلú”
حين بكى الدليلú
قلت له: لا تبكö يا رفيق دربي الطويلú
لا تبكö إننا نحاول التحريرú
لا نبتغي ملúكا ولا سريرú
فإنú وصلنا..
تلك غاية التطوافú
ما لمú…
تكنú دموعنا قد زرعتú على الطريقö شجرةú
ألúقتú على بحيرةö الصمتö العقيمö
دمعة منكسöرةú
واحترقتú بحثا عن المجداف (1)
هنا تتجلى تأثيرات التراثö في ذاكرة “المقالح” والتي عكسها في قوالب شعرية بديعة أضفتú على تجربته حراكا فنيا جميلا وأبعدتö النص عن السردية الباهتة والخطابية المزعجة. وهنا نلاحظ أن “المقالح” لم يكتفö باتخاذö الشخصيةö رمزا عاما بل إن الشخصية التراثية الشعرية – تحديدا- هي أقرب إليه وإلى طبيعة المعاناة الشعرية لذا فإن ارتباطه بها له خصوصيته المميزة… وهو يلجأ إلى ضم الشخصيات التراثية تحت إطار واحد في الدور والتجربة لأجل تعضيد الفكرة وتحميل النص جملة من الدلالات السياقية الجديدة”. (2)
هذا الرمز الذي استخدöم في سياق قناع “المقالح” “سسيف بن ذي يزن ” استخدمه -أيضا- الشاعر “أحمد ضيف الله العواضي” في قصيدته “خماسيات الملك الضöلöيل” التي يقول فيها:
فأنخú شجونك بين قافيتينö
أقصى الحلمö حلم غيرö ذي زرع
وأسئلة وأنهار مöن النفطö المصفى سائغا
ومضارöب صفر…
هي الصحراء حنظلة الأسى
بلد ملفقة ويوم تائه…الخ (3)
وهذا الاستخدام الموفق من قبل “العواضي” لقöناعöه الذي استلهمه مöن التراث لم يأتö اعتباطا وإنما عن معرفة ودارية مسبقة كون “العواضي” يمثöل أحد رموزö التيار الحداثي لجيل الشعراء الثمانيين والتسعينيين في اليمن وهو ما جعله يسعى إلى “خلق أسلوب (تع