الزوملة.. حكواتي حارتنا
عبدالوهاب الضوراني
عبدالوهاب الضوراني –
> فعلا.. الزوملة حكواتي حارتنا كان أعجوبة عصره وزمانه قلما يتكرر ثانية أو يجود الزمان بمثله مرة أخرى من المتطلعين دائما إلى الإبداع بفضل امتلائه بالحيوية ورهافة حسه للالتقاط السريع الذكي بكل ما يقع على ذهنه ويتحرك تحت عينيه من قضايا الناس وإفرازاتهم ومشاهدهم اليومية والإنسانية التي عايشها الرجل وتفاعل معها لحظة بلحظة وثانية فثانية.. سبحان الله يؤتي الحكمة من يشاء.. رجل أمي وقروي لا يجيد القراءة أو الكتابة أو أي نوع من التعليم أو التوعية التقليدية وبه تلك البلاغة والفصاحة والإحساس الذكي والمتقد.. يستمد الرجل الزوملة عادة تجلياته ومواهبه وتوارد أفكاره وخواطره ليس من القواميس أو المراجع وبطون الكتب كما هو سائد ولكنه يستوحيها عادة ويلتقطها مما يدور حوله من قضايا ومشاهد يومية وتعايش فكري وإنساني من وحي الذاكرة وواقع العينية.
هو في الحقيقة حوات وصياد أسماك ماهر.. احترف مهنة الصيد ومغامرة البحر منذ نعومة أظافره في الصباح الباكر تجده مستقلا زورقه الصغير الذي ورثه وآل إليه من أبيه الصياد الذي لقي حتفه في البحر وبيده كومة إليه من معدات ولوزام الصيد لالتقاط رزقه ورزق عياله وجدتهم العمياء مما يجود به ويغدقه عادة البحر.. واليوم الذي يشح فيه البحر وتتوقف موارده يقفل عائدا أدراجه مبكرا إلى قهوته ليأكل خبزه مما تدره عليه عادة حكاياته ورواياته وقهوته المتواضعة.. عندما تنهل وترتشف من ينابيع وموارد نصوصه وروائعه يظل صوته الدافئ الهادئ يترقرق كجدول الماء في أذنيك ووجدانك له قدرة هائلة وفائقة في التأثير المباشر على مستمعيه وجذبهم إليه وإلى قهوته الواحد تلو الآخر فرادى وجماعات من كل حدب وصوب قبل أن يستعد الرجل ويتأهل ويتأهب للإدلاء بحكاية أو رواية جديدة يتنحنح أولا سالكا حنجرته ثم يبصق أرضا ويعدل نظارته المثقوبة ويعتدل في جلسته قبل أن يهم بالكلام »حكاية اليوم ياسادة يا كرام عن خليفة المسلمين والحاكم بأمر الله هارون الرشيد في مستهل تكوين وإقامة الدولة العباسية الأموية وكيف استطاع القضاء على البرامكة الذين بايعوه على الخلافة والولاء ثم انقلبوا وانشقوا عليه واستئصال شأفتهم«.
لا يجرؤ أحدهم على الكلام أو حتى تبادل التحية وهو يتحدث ولو فعل أحد ذلك اعتبرها الرجل إهانة ونوعا من الإساءة والاستخفاف به وبالحضور وبحرمة المكان برمته.
عندما يأزف الوقت ويحين موعد بدء الحكاية يكتظ المكان وجزء من فنائه بالحضور والوافدين بيد أنه لا يوجد مكان أو مقعد فارغ أو شاغر لا يشغله أحد.. فللرجل الزوملة خاصية ونوع من الجاذبية والتأثير القوي والمباشر لإيصال الحكاية أو الرواية والمعلومة بحيث تظل راسخة وماكثة في الذاكرة والأذهان زمنا طويلا.
يقول عنه القاضي عياش باقاضي إمام جامع ذو النورين مفتي الديار مرددا قول الشاعر: الزوملة وإن كان آخر زمانه فقد أتى بما لم يأت به الأوائل«.. في سوق السمك »المحوات« تجد الزوملة شخصا ورجلا آخر وقد خلع عنه ثوب الروائي والحكواتي المبدع والمتألق وارتدى ثوب السمسار والبائع الشاطر الذكي يساوم هذا ويجادل ويناقر ذاك كمروج وسمسار محترف أو ممثل بارع يؤدي دورا أو نصا تراجيديا على خشبة المسرح.. هذا هو الزوملة حكواتي شهر رمضان الشهير.. عندما يحل رمضان تتحول قهوته إلى خلية نحل لا تكف لحظة عن الطنين وإثارة الجلبة والضوضاء تبدأ حكايته ولا تنتهي حتىR