المسافة بين الذاتية والمراقبة
صدام الشيباني
صدام الشيباني –
إن الحديث عن التأثير الثقافي حديث عن حالة المثقف – بالدرجة الأساس – خاصة المثقف الكاتب , الذي يمارس العملية الإبداعية الكتابية بأنواعها المختلفة , لأن المثقف هو الذي يبذل روحه للقيام بالنظر الى مستوى الوعي الاجتماعي والثقافي , والعمل على بث روح التغيير والثورة داخل انساق الثقافة من اجل التخلص من الركود والتخلف الثقافي والمعرفي في الوطن , مع ذلك يكون المبدع هو الشخص المسؤول عن أوضاع البلد ثقافيا , وهو الموكل اليه تفكيك المنظومات الثقافية المعقدة بالبحث عن نقاط خلق الحياة الحقيقية في الوعي العام .
يكون المثقف في هذه الحالة قد تبنى القيام بتكوين (ذاتية ) مستقلة , لها ظروفها الخاصة , وقدراتها , واهدافها للوصول الى المستوى الثقافي الذي يؤهله لتمثيل نفسه في المشهد الثقافي , والتعبير عما يعتمل في ذهنيته من أفكار ورؤى ومشاعر تجاه ذاته المثقفة , ويكون مسؤولا عنها مسؤولية مباشرة , يمتدح إذا احسن , ويذم إذا تساهل وقصر .
بجانب تكوين الذاتية , يتم تكوين (الذات المراقبة ) وهذه الذات تختلف عن الأخرى , لكنهما في جسد واحد وروح واحدة ايضا , الذات المراقبة هي ذات تنشأ بفعل العلاقة القائمة بين المثقف والآخرين , وتتكون مما يحصل عليه المثقف من التثاقف مع الاخرين , أي تقوم على الصلات الاجتماعية والثقافية والفكرية المباشرة , كالتلمذة , والأستذة , والتواصل , والمشاركة , ويتم في هذه العملية فتح أفق التلقي من أجل إقامة حوار معلن أو غير معلن مع الأفكار التي يتم التعامل معها , وذات المراقبة ذات تاريخية , موكل اليها رصد الظواهر الثقافية والتغيرات الفكرية , من اجل دراستها وتحليل أنظمة الفكر فيها لطرح رؤى تحاول معالجة الواقع المعيش لإنقاذه من الأمراض الثقافية المهيمنة التي استعصت على المعالجة .
يحدث ان تلتحم الذاتية مع ذات المراقبة حتى يتكون الرمز الثقافي , أي الشخصية الثقافية التي تستمر في عمل المثاقفة فترة من الزمن بما يضمن لها الرسوخ في ذاكرة القراءة والتاويل , والدراسة , وذلك بتصدير الذات المبدعة الى الاخرين , عبر المؤلفات , والأعمال الأدبية والفكرية بصناعة المشروع الثقافي والفكري من أجل الوطن .
تكون المراقبة داخلية , في مراجعة ما تقوم به الذات من قراءة لإنتاجها الفكري و النظري والأدبي , بالبحث عن الخصائص والمميزات التي تفرق بين الأعمال , والسير نحو المناطق المغرية في الكتابة , في هذه المجال او ذلك , وهي عملية تقييمية تخضع لحساب العمر للذات المبدعة , وكمية الأعمال المبدعة , وما تحتاجه المرحلة من إبداع , وهذه عملية تناقدية ذاتية , والاهتمام بها يطور الإبداع ويخصبه , ويجعل صاحبه مواكبا لكل التغيرات التي تحدث وناقدا لها .
وتكون المراقبة الخارجية بالنظر الى حاجة الناس , والنخبة الى ما يطرح من تصورات ورؤى , ومناقشتها , عن طريق البحث عن قاعدة الاختلاف الثقافي والفكري , برصد حالات التناقض والتباين والتضاد في الكتابات التي تقدم , وما فيها من مواجهة وصدام , او محاورة وتداخل , وهي حالة قرائية في الأساس , فلا يمكن أن تتحدث عن (س) من المؤلفين إلا بعد ان تقرأ اعماله بدقة , ففي هذه الحالة تتكون الأفكار عن الاخرين وإبداعهم , وما حجم تاثيرهم في مسار الكتابة الابداعية .
وقد تحضر شخصية الرقيب في الذات اكثر من المتصور , أو يتم التعاطف مع الرقيب ذاتيا الى الدرجة التي يستعظم فيها , فلا تستطيع ان توقفه عند المستوى المقصود , وهذا يسبب التوتر والانفعال الذاتي لدى المبدع , خاصة إذا لم يستطع الرجوع بذاته الى النقطة المتوازنة التي يضمن السيطرة فيها على الذات , قد يتغول هذا الرقيب ويتحول الى سلطة مطلقة داخل الذات ’ يمارس هيمنة على التفكير وعلى الإبداع , وفي ذلك تكون الخطورة .
عندما يحضر الرقيب في الذات تصبح الكتابة موجهة نحو قارئ محدود التصور , وقاصر الفهم , ومسطحة , لا تقبل اللغة الجديدة , ولا القدرة على التاويل وفك الشفرات , ويكون الأسلوب مقيدا الى الدرجة المضنية , وقد قرأت مجموعة من الكتابات الشعرية , والقصصية , التي تقع على مقربة من الموضوعات , ولا تتطرح اليها مباشرة , بل تناقش قضايا في المحيط , ولا تدخل الى الغور منها , وكان الأجدى ان يتطرق الشاعر والقاص الى تلك الرؤية في الأكثر فائدة . إن الرقيب هنا مارس سلطته الى الدرجة التي لم تجعل الكاتب يكتب ما يريد , دون خوف من ذاته .
إن الرقيب الذاتي يمنع الكاتب من التحرر والبوح باللغة الذاتية , ويقتل الرغبة في النقد والتفكيك , ويمنع ظهور أسئلة الكتابة والإبداع , ويمنع التحرش الاجتماعي لأساليب الكتابة الجديدة , وهو ما يدخل المشهد الثقافي في البؤس , والانحطاط , وهذا معيق للعملية الإبداعية كلها , وهذا يحتاج الى شخصية طموحة لا تتاثر بالنسق الثقافي السائد , بل تقاوم وتزرع نسقا جديدا .
إن انضج انواع المراقبة هي المراقبة العلمية , التي تتحول الى نسق , تت