حضان المآتم

بشير المصقري

بشير المصقري –
في ظهيرة يوم 29 أغسطس عام1999 م ارتبكت صنعاء فجأة وامتقع لونها وشحبت شمسها ولم تعد تلك المليحة لكنها ظلت معشوقة السل والجرب وتدري بأنها في حضن المستعمر السري وقد غاب الوجه الذي كان يشبهها لتغدو صديقة العمى حين سرى الخبر سريان الوجع في جسد لم يستعد تماما لمواجهة ألم داهمه وفتته أوصالا كما فتت أعياء الظهيرة تلك خلجاتي وسكوني لحظة عودتي إلى المنزل لتستقبلني والدتي بخبر جاء من هاتف منزلنا قائلة لي اتصل بك أحدهم وقال أرجو إبلاغ بشير بأن يصرف نظر عن الزيارة التي نرتب لها للأستاذ عبدالله البردوني فقد تذكر الشاعر الكبير أن يموت بعد الصعقة عرفت هوية المتصل مع أن والدتي لم تعرف اسمه وأصابني مزيج من التبلد والأسى وهرولت باتجاه راديو المطبخ لسماع الخبر من إذاعة صنعاء وبالفعل كان لي ذلك .
كنت حينها في بداية مشواري مع الشعر وتناولني اليأس بقسوة لم أعهدها في حياتي حيث شعرت أن الشعر غادر العالم ولا أمل من إكمال الخطوات نحو القصيدة وأتذكر أن الحيرة انتابتني لبقية ذلك اليوم الذي حاولت به أن أعيش الحدث طازجا بكل تفاصيله وتحدثت إلى أصدقاء كثر في مدينتي التي تبتعد 130كم عن صنعاء وبطبيعة حال يريم كمدينة شبه نائية وحال بيئة مهمومة بشئون الحياة الريفية كان اليأس يكشر عن أنيابه وينهش بقايا الطموح في جسد فارغ إلا من بضعة وعشرين عاما كانت حصيلة تخبط الفتى الذي كنته وبعد جهد جهيد وجدت ضالتي لدى جارنا العجوز الذي عرفته يصارع العزلة ويجاهد صروف المعرفة ويبدد قطيعة المدينة عن نفسه أولا وعن ماحولها من كلسيات الانعزال وقبل الوصول إلى زاويته في الحي حطم العجوز شيئ يسير من الغربة التي دخلت أغوارها عقب سماعي خبر وفاة البردوني وبادرني بالقول « أخيرا حضان المآتم يطلق لنفسه عنان الخلود يا بني « وعلى الفور فقهت بأنه يتحدث عن ضمير فريد وعتيق كان يكتنف البلاد بطولها وعرضها وتوهجت سعادتي برجل كهل يشاطرني مشاعر لم يحس بها أحد من أبناء المدينة , ألقمني شذرات حكائية عن البردوني بدراية من رافقه في محطات كثيرة من حياته جعلت في نفسي أشياء من الشجن واللذة بالحزن الذي تملك شاب عشريني التهم رقما كبيرا من سير وقصائد البردوني وبمجرد محادثة عجوز بدا لي أنه يحوي الكثير من قيم المعرفة وأضاف العجوز لابد أنك تعي ما أحدثه البردوني من صدى وضع اليمن العظيمة شعرا وفكرا وأدبا رددت بالإيجاب واستطرد سريعا بالقول: لكنك لا تعرف أن هذا الرجل الأهم في تاريخ الفكر والأدب في اليمن لم يحدث أن جعل الشعر سلعة وطبلة مداح ولم يتقرب لسلطة ولم يتملق لحاكم منذ سلطة بني حميد الدين حتى سلطة الرئيس ( يقصد الرئيس السابق حينها) وشرع يحدثني عن تفاصيل زيارة قام بها الرئيس السابق للبردوني حينما كان مريضا ذات يوم ليسأله عن رأيه بالديمقراطية وكيف أن البردوني أجابه بالقول ( لا يصح الحديث عن الغائب).
وعلى خلفية هذا الموقف مع عجوز ترك الحياة ذات مساء تحت جنح الظلام أدركت أن البردوني رحمه الله كان لا بد أن يترك الحياة هو الآخر في الضوء الذي عاشه واستلهمه في وطن حالك وقلوب عمياء واليوم وبعد مضي ثلاثة عشر عاما من خلود رجل وإنسان بحجم الأستاذ البردوني فقيد اليمن ورائيها الكبير لم تستطع البلاد بجبالها وبيوتها وبحارها وناسها وسمائها أن تعيش الضوء الأثير والنور الكثير الذي استوطن عيون مفكر وشاعر قال للوطن وكائناته وأسماله
أعندي لعينيك يا موطني سوى الحرف أعطيه سكبا وغرف
أفصل للياء وجها بهيجا وللميم جيدا وللنون طرف
ولربما استطاعت مساحة من هذا الوطن بحجم خزيمة احتضان ذلك الضوء وعكفت على إيوائه وتربيته في مدى مأهول بالقبح وظلام مازال يسرح ويمرح بينما ينسلخ وجدا من المقبرة المواجهة للبنك المركزي ينبئ بأن المال الحقيقي والثروة والكنز في أحشائها لا في مبنى يقابلها يتكون من عدة طوابق وسور فاخر وحراسة مشددة وحوش به سيارات فاخرة وأحلام هبائية لرجال يربون كروشهم في خزائن ذلك المبنى بينما يتجمع أصحاب الحاجة والمعدمون والفقراء على الأبواب المتوسمة بين أسوار المقبرة وإنها لمفارقة عجيبة ألمحت إلى أن ما نسي أن يخبرني عجوز حارتنا قسرأ وما لم يبح به لي أنه كان يقصد بـ «حضان المآتم « بعد أن قرأت قصيدة البردوني التي تحمل عنوان « حضان المآتم» الواردة في ديوان رجعة الحكيم بن زايد ..لأتساءل لماذا لم يحضن مأتمه احد حتى اليوم

قد يعجبك ايضا