
حاوره/ محمد محمد إبراهيم –
على طريق طولها 120( كم) بين قريتي وإب شاهدت الناس شبه العراة حفاة متعبين
قطعنا نحو 15 كيلو متراٍ مشياٍ على الأقدام من قرية حورة إلى منطقة «كتاب» في قاع الحقل ليقلنا «بابور» قادم من صنعاء كان ينتظره المسافر أحياناٍ لأيام
اتذكر أن الطريق التي تمر من قاع الحقل إلى مدينة السدة شقها المواطنون بأمر الإمام تحت إشراف »العامل«
كان التعليم محدوداٍ جدا ووجود تسمية مدرسة الأيتام لا يعني وجود مدرسة متخصصة لهم وإنما كان بعض الأيتام يسكنون في مدرسة الأحمدية أو العلمية بصنعاء
> يلتقط صور الواقع في كلمات ليرسم بها رسالة راقية عن المفارقات التي تعيشها المجتمعات ليس لأجل الكتابة وسحرها الأخاذ وإنما لحمل رسالة التعايش الانساني ونقل الخبرات من المجتمعات المتقدمة إلى مجتمعنا لعله يقرأ .. فكتابه رحلة إلى الصين الذي صدر عن دار عبادي مؤخراٍ في هذا العام يجمع بين دفتيه تجربة أرقى أمم العالم وأكثرها انتاجاٍ واحتراماٍ لقيم الوقت والعمل والتعايش الانساني.. إنه الكتاب الذي أشعرني بالندم والأسى – ليس لأني لم أرافق الكاتب في رحلته الميدانية للصين- بل لأن صناع القرار في عالمنا الثالث لا يقرأون إلا بحدود المناكفات السياسية والجدل العدمي.. – ولمن لا يعلم – فالأستاذ شائف علي الحسيني إعلامي وكاتب من الطراز المتقدم والواعي.. كان من طلاب المدرسة الأحمدية بـ(تعز) دخلها في عام 1960م وكان من السبِاقين إلى صفوف الجمهورين والمدافعين عن الثورة السبتمبرية إذ لا زال يحتفظ ببطاقة انتمائه للمقاومة الشعبية وهي الهوية النضالية التي صدرت حاملة شعار «الموت في سبيل الجمهورية والثورة» والتي حصل عليها في العام 1965م حين كان عمره – حسبها- 17 سنة.. هذا البطاقة صادرة عن المقاومة الشعبية- فرع تعز -بتوقيع المقدم ركن/ يحيى مصلح مهدي قائد المقاومة الشعبية..
وهذا ما يجعل الحوار معه أكثر أهمية في الحدث عن الحركة الطلابية والمقاومة الشعبية وتفاصيل ما جرى يوم الثورة وأثناء معارك الدفاع عنها وتفاصيل أخرى عن مرحلة الفرز السياسي وآثاره السلبية على مسار النظام الجمهوري التي اكتنفت مرحلتي ما قبل وبعد الحصار…. إلى تفاصيل الحوار الذي أجريناه بمناسبة اليوبيل الذهبي لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م..
> فــي البدء أستاذ شائف كنت من طلاب المدرسة الأحمدية .. لكن لنرجع قليلاٍ من حكاية انتقالك من القرية إلى تعز.. ماذا تتذكر من رحلة ذلك الانتقال ¿
- كنت لم أزل طفلاٍ بين العاشرة والثانية عشرة لكني أتذكر الكثير من المشاهد وأستطيع القول إنه عندما انتقلت من قرية «حورة – في وادي بنا – مديرية السدة « سافرت مع خالي حيث قطعنا نحو 15 كيلو متراٍ مشياٍ على الاقدام.. ووصلنا إلى منطقة «كتاب» في قاع الحقل. وهي مجموعة صغيرة من البيوت. تمر منها طريق صنعاء المؤدية إلى تعز وكانت «كتاب» مجرد «ممسا» للمسافرين (أي مبيت) وفيها بعض الدواب لتأجيرها لمن لديهم أدوات وغيره من المسافرين تنقلهم إلى قرى ومناطق وادي بنا وأذكر شخصاٍ له سمعة كبيرة في هذا المضمار اسمه الحمامي رحمه الله إذ كان يؤجر حماره للمسافرين… وفي هذا المكان أنتظرنا مع مجموعة من المسافرين على أساس إن «بابوراٍ» سيأتي من صنعاء -كان المسافرون ينتظرونه أحيانا لأيام وكنت حينها لا أعرف ما هو «البابور»! ولا ما هو شكله!.. وعند وصوله فوجئت بـ»مركبة» كبيرة جداٍ تحمل أحجاراٍ على صندوقها الضخم الكبير ولها ضجيج يملأ الوادي وكنا نسمع بعض المسافرين يقولون إن هذه الحجارة التي يحملها «البابور» جلبوها من ذمار لبناء حمام للبدر في العرضي ب»تعز» على غرار حمامات صنعاء البخارية وكانت الفكرة أن البدر سيكون إلى جوار والده في تعز باعتباره ولياٍ للعهد وسيصبح حاكماٍ على اليمن كان «البابور» يغص بالمسافرين من ذمار ورداع والبيضاء ويريم وغيرها عندما ركبت في هذا «البابور» كنت أشعر وأنا وسط تلك الأحجار إنه يدور ويتحرك وأشم رائحة غازات وأدخنة لا أميز نوعها ولا ماهي! ولاكيف يسير¿! (اتضح لي فيما بعد إنها وقود البابور من الديزل والبترول والزيوت).
وأتذكر من سفرنا في تلك الطريق الترابية التي عرفتها لأول مرة إن «البابور» في «نقيل سمارة» وغيرها من «العقاب» ذات الالتواءات والمنحنيات الخطيرة يتوقف لينزل الركاب حفاظاٍ على سلامتهم وعلى هذا الحال مضينا في سفر مضنُ حتى وصلنا تعز في المساء تقريبا.
طرقات بسواعد المواطن
> على ذكر الطريق الترابية يقال: إن خط الحديدة -مدينة الشرق – ذمار- إب – تعز – وغيرها من الطرق شْقتú بسواعد المواطنين وإن الإمام كان يلزم كل قبيلة بشق الجزء المار من منطقتها.. ماذا تعلم من صحة هذا القول ¿ وهل تتذكر من شِقِ الطريق التي مررت بها في رحلتك الأولى إلى تعز¿
- لا أعرف كيف تم شق هذه الطرق.. ولكن الذي عرفته فيما بعد إن ذلك كان يقوم على جهود المواطنين من سكان الأرياف كل منطقة أو قبيلة تمرْ الطريق من أراضيها هي ملزمة بأمر الإمام بشقها إلى حدود المنطقة الأخرى وهكذا.. وما أتذكره إنه عند شق الطريق التي تمر من قاع الحقل الى مدينة السدة بدأتú على ذلك النحو.. المواطنون يشقون الطريق تحت إشراف العامل الذي كان يمثل رأس السلطة المحلية أنذاك.. ولاشك إن ذلك ما كان يتم في جميع الطرق الرئيسية والفرعية.. فجميعها معمولة باليد وبالأدوات البسيطة ولاتزال معالم طريق صنعاء الحديدة وطريق صنعاء تعز القديمة واضحة حتى اليوم من خلال مابقي منها من جدران تشاهد بالعين عند المرور منها.
> كيف شاهدت المناطق التي مررت بها ¿ وماذا عن مشاهدتك للحالمة تعز لأول مرة ¿
- كانت الحياة التي شاهدتها على طول الطريق الذي يبلغ (120) كم تقريبا لا تختلف عن ما هو في القرية «الأغنام والأبقار والناس شبه العراة والحفاة والمتعبين» حيث كنا نراهم في كل مكان كنا نمر فيه حتى وصلنا إلى مدينة «إب» التي بدت عبارة عن مجموعة بيوت منصوبة ومتلاصقة في ربوة مرتفعة تحت جبل بعدان وكان ما حولها مساحات وحقول زراعية خضراء فهي ليست مدينة كما عرفنا المدن فيما بعد ولكنها قرية كبيرة فيها مقر نائب الإمام والحكام الآخرين إلى جانبه توقفنا في ساحة صغيرة في أسفل تلك الربوة نشرب من الماء في سبيل أقيم على الطريق.
وكانت تعز في ذهني شيئاٍ آخر.. فيها التجارة المتنوعة والسيارات وفيها المباني الكبيرة وغير ذلك مما تصورته وعندما وصلنا «تعز» المدينة -التي كنا نسمع بها على الدوام- كان الوصول في وقت المساء ولم تكن أمامنا معالم مدينة مضيئة وانما بيوت تنبعث منها آثار ضوءُ خافتة.. تشعْ من قْرى ومبانُ متناثرة في جميع الأماكن التي مررنا فيها لم تكن كما تصورت في ذهني.. بل كانت تبدو عبارة عن قرى كبيرة ليس أكثر وكان وصولنا إلى صالة حيث خالي يعمل هناك عند شخص من البلاد يعرفه.. فكان أول منظر شاهدته في الصباح وثبت في ذهني هو البيت الضخم الكبير ذو الطوابق الأربعة الذي لم أشاهد مثله من قبل هو قصر «صالة « -مقر الإمام ومسكنه- يتربع في أعلى تلُ متوسط الحجم ويطلْ على كل البنايات التي تحتشد حوله ومنها على مساحة كبيرة من تعز المدينة والأرض وتلك البيوت أغلبها للعسكر والحراسات التابعة لجيش الإمام وللقرى التي يسكنها الفلاحون هناك اندماج واضح بين الريف مع المدينة هذه مساكن للقاطنين في المدينة وبجانبها حقول للفلاحين يحرثونها وقراهم التي يسكنون فيها وهكذا..
كان مشهد ذلك العسكري الذي يلبس البنطال والقبعة ومحزم بالمسدس الواقف أمام القصر شيئاٍ مفزعاٍ بالنسبة لي فهو جديد في حياتي كان هذا العسكري يتولى مسئولية فتح الخشبة التي تمنع البوابير الآتية بالبضائع من عدن من الدخول قبل استلام ورقة الجمرك وطلوع ضوء الصباح..
بعد وصولي بيوم بدأت المراجعة إلى جانبي خالي في ديوان الإمام من أجل التسجيل في المدرسة الأحمدية فقد كانت تمرْ المراجعة عبر خطوات كثيرة تبدأ من مركز الناحية في المنطقة التي أتيت منها ثم التأكد من إنك فقير ثم إمكانية استيعابك في المدرسة… إلخ ولولا تدخل شخص كان كاتباٍ في مقام الإمام اسمه الذاري -رحمه الله- لما تم قبولي تحت حجة إنه لا يوجد (منحل) -أي مقعد شاغر لإحلالي بدل الطالب الذي خرج- أو كما قال لخالي بعض الموظفين تقديم رشوة حتى يتم إلحاقي ونحن لا نملك أي نقود فكان لتدخل الذاري أثر كبير لتحقيق مطلبنا فجزاه الله خيراٍ..
التعليم قبل الثورة
> مقاطعاٍ – ذكر الكثير في أحاديثهم عن مدارس الأيتام فهل هذا يعني إن ثمة مدارس للأيتام كانت مستقلة¿
- حقيقة لا أدري كيف جاءت هذه التسمية.. ولا توجد مدرسة للأيتام بشكل متخصص لكن ذلك جاء في إطار الفصل بين من يلتحقون للدراسة ولديهم أهل ومساكن في المدينة وبين من يلتحقون وهم من الأرياف لا يملكون سكنا ولا إمكانيات مثل حالي وآخرون كثيرون أولئك يدرسون ثم يعودون إلى أسرهم ومنازلهم في المدينة تحت رعاية آبائهم ومنهم أيتام من التلاميذ يسكنون في المدرسة بشكل دائم ويدرسون كلهم في مدرسة واحدة..
وهذا لا يعني وجود مدارس أخرى أفضل من هذه المدرسة الخاصة بالأيتام إذ أن التعليم كان محدوداٍ فهي مدرسة واحدة مشهورة بهذا الاسم في تعز المدرسة الأحمدية وفي صنعاء المدرسة العلمية وكانت المدرستان تضم طلاباٍ من صنعاء ومن تعز ومن إب ومن ذمار ومن مناطق كثيرة فسميت مدارس الأيتام على هذا الأساس شاع الاسم «مدرسة الأيتام» ولكن ليست للأيتام فقط بل كان هناك أبناء المشايخ والتجار والفقهاء الذين يدرسون ويسكنون في المدرسة.
ولم يكن كل الناس محظوظين بالتعليم فمشقة الانتقال إلى هذه المدن والتكاليف المادية وخطورة الامراض الوبائية المميتة تمنع كثيراٍ من الأسر السماح في سفر أبنائها للدراسة هناك فكانت مغامرة وحظوظاٍ لمن يتوفق في تلك الظروف الصعبة والشاقة والغالبية من الناس يوجهون أبناءهم للعمل الزراعي وإلى الغربة في الحبشة والسعودية وغيرها.
حراك طلاب الأحمدية
> وأنت من طلاب المدرسة الأحمدية ماذا تتذكر الحراك الطلابي المتمثل في إضراب الطلاب في المدرسة¿
- أتذكر إن أول ماحدث إلاضراب في المدرسة الاحمدية كان امتدادا للإضراب الذي حصل في مدرسة الأيتام بصنعاء وأعتقد إن ذلك كان أول المخاضات العملية المتعلقة بالثورة.
> هل كانت علامات الثورة بارزة من خلال هذا الحدث¿
- لم تكن علامات الثورة واضحة في البداية وإن كان الهمس يجري بين الطلاب الكبار وبين الناس الواعين في الشارع إن اليمن تعيش الفقر والجهل والمرض بسبب الإمام ولو أن الإمام يموت أو يذهب ستتغير اليمن وكنا نسمع أن الإمام لاتدخل الرصاص في جسمه فهو مصرف منها فكان ذلك بالنسبة لنا أشياء غريبة لانعرفها تحكى لنا أو نسمعها في الشارع.
وقبل الاضراب تقريبا بشهر سمعنا إن الإمام أحمد جاء إلى المدرسة الأحمدية وجلس أمام البوابة الخارجية.. يأتي إليه الطْلاب والمواطنون للسلام عليه وكانت المدرسة قريبة من الباب الكبير في المدينة والذي لايزال أهم معالم مدينة تعز التاريخية حتى اليوم ومن هذا المكان كانت أنذاك تمتد طريق أسفلتية ضيقة تتسع لمرور سيارة واحدة وفي اتجاه واحد ترتبط بقصر الإمام في صالة وقبل ذلك بالعرضي مقر الحكم ونواب الإمام و هي الوحيدة في المدينة.. ولا توجد سيارة في تعز غير السيارة الخاصة بالإمام أحمد أو سيارة أخرى كان يقودها شخص مقرب من الإمام يدعى «ابن محمود».. أو سيارات نادرة تأتي وتغيب ومصدرها عدن لبعض التجار..
> من تتذكر من طلائع الحركة الطلابية ¿
- ما يتعلق بصنعاء لا أتذكر من كان يقود تلك المظاهرات والاضرابات ولكن اتضح فيما بعد أن تنظيم الضباط الاحرار على علاقة بعدد من الطلاب وبالأنشطة السياسية المعارضة للإمامة في اليمن وأتذكر إن من طلائع الطلبة الذين قادوا الإضراب في المدرسة الأحمدية بـ(تعز) الذين كانوا كباراٍ وكانت لهم علاقة بالسياسة.. محمد صالح الكهالي وكان رحمه الله طوال عمره في جبهات القتال دفاعا عن الثورة والجمهورية و يحيى حميد الخراشي ومحمد مرغم والحيمي وحمود هادي النمر -استشهد دفاعا عن الثورة -وأحمد حمود شحطرة رحمه الله-استشهد هو الآخر في جبهات القتال – وكذلك يحيى العماد وأحمد حسن محسن الذي استشهد بعد زفافه في العرس باسبوع حيث أخذ إجازة للزواج ومن حماسه عاد الى القتال واستشهدوا رحمهم الله جميعا واتذكر من الطلاب الذي كان لهم دور في الاضراب وفي الدفاع عن الثورة عبد الملك الارياني واسماعيل الحميضة وعبدالله علي عيسى المجاهد ومحمد الحالمي واحمد علي رباد وآخرين كثيرين ونحن كنا حينها لا نزال طلبة صغاراٍ ندور في فلك هؤلاء الطلبة دون إدراك موضوعي لما يحدث وإنما كنا نراهم متحمسين فنتحمس لحماسهم.
التخطيط للحركة الطلابية
> هل كان الطلبة على علم بما يخطط له من ثورة¿
- لا أعتقد ذلك.. لكن كنا نسمع أن الطلبة الكبار كانوا يلتقوا بـ(علي عبد المغني) وكان ينزل من صنعاء وكان عندهم مقر قريب المستشفى الملكي الجمهوري حاليا يلتقي بالضباط في تعز وببعض الطلاب الكبار.
> هل تتذكر مطالب الطلبة وشعارات الإضراب والاحتجاجات حينها ¿
- لا أتذكر ما هي مطالبهم ولا شعاراتهم لكنهم كانوا يرددون في أحاديثهم في المدرسة «إننا لا نريد الإمام» وإن هناك ظلماٍ وجهلاٍ وفقراٍ كله بسبب الإمام وغيرها من الكلمات التي كنت لا استوعبها.
> كم استمر الاضراب في المدرسة¿
- استمر الإضراب في المدرسة لمدة اسبوع تقريبا والحصار أيضاٍ استمر اسبوعاٍ وقطع الماء والغذاء بغرض خروج الطلبة من المدرسة وإغلاقها بحسب أمر الإمام.. فأرسل الإمام بعض القضاة والمسئولين قبل الإغلاق يفاوضون الطلبة بإنهاء الإضراب كما تم إرسال جنود طوقوا المدرسة من جميع الجهات وأتذكر إنه أتى إلى المدرسة حينها القاضي عبدالرحمن الإرياني.. مع آخرين لم أتذكرهم ودخل الساحة ليفاوض الطلاب لكني وكثيراٍ شعرنا أنه ليس متحمساٍ لإيقاف الإضراب لأنه كان يبدو مبتسما وهو يخاطب الطلاب في ساحة المدرسة رغم خطابه لهم: «سنوفر لكم طلباتكم وسنعمل كذا وكذا لحل المشاكل» لكن لا يوجد الحماس القطعي تجاه إيقاف الإضراب وكان بعض الطلاب يقولون الارياني هو معنا وبعض التلاميذ يتحمسون فيصرخون في الساحة يسقط الإمام.
> هل تتذكر أسماء طلاب ممن كان يحدثهم الإرياني لحظتها¿
- لا أتذكرهم جميعا وإنما صفوت ممن ذكرت لك سابقا.. إنهم قادوا الإضراب وجميع طلاب المدرسة كانوا متواجدين حيث اكتظت بهم الساحة داخل المدرسة.. وما أتذكره في تلك اللحظة هو أن أحد الطلاب الكبار كان ينهض من أوساط الطلاب يلعن الإمام ويشتم ويرفض أي عرض يطرحونه والشيء العجيب إن كل التجار والميسورين في تعز ممن يسكنون جوار وقرب من المدرسة بل واعتقد في المدينة يأتون بالأكل سرا للطلبة المضربين حيث يرمون به من النوافذ في الجدران ومن فوق الأسوار بعد أن تم تطويق المدرسة بالعسكر المخلصين للإمام ومنع الأكل والماء علينا.. في تعز كانت الغالبية ضد حكم الإمام ومن تلك الأسماء التي اشتهرت بمساعدة الطلبة واحد يقال له: (شائف.. صاحب المستودع الشرقي) صاحب مستودع الشرق الأوسط واحمد عمر صاحب استوديو تصوير بجانب مسجد الغفران كلهم في الشارع الرئيسي 26 سبتمبر حاليا وأسماء أخرى من الذين يأتون ويتاجرون في عدن وأتذكر أن بعضهم كان يأتي بالروتي ويضع نقود (فرانصي) في داخل الروتي ويرمي به إلى داخل حوش المدرسة وكان لدى الطلبة الكبار نوع من المسئولية والإنسانية تجاه الطلاب حيث يجمعونها ويوزعونها علينا بالتساوي.. واستمر الحال كذلك حتى هدد جنود الإمام باقتحام المدرسة.
> هل خاف الطلاب¿ وماذا عملوا حينها¿
- أكيد خاف الطلاب خصوصاٍ الصغار.. أتذكر إن الطلبة الكبار حينها جمعوا كمية من الأحجار وزعوها على كل الجوانب في سطوح المدرسة لرمي العسكر بها إذا هجموا على المدرسة وكان السويديون قد منحوا المدرسة مجموعة ألعاب حديدية داخل فناء المدرسة خاصة بألعاب الجمباز وكان أحد الطلاب الكبار قد خطرت بباله فكرة أن يأخذوا أحد هذه الألعاب ويضعوها في سطح المدرسة وفعلاٍ تم تغطيتها لإيهام الجنود إنها مدفع لكن تزايدت التهديدات بالاعتقال واقتحام المدرسة فخرج الطلاب جميعهم في صفوفاٍ متراصة يرددون الأناشيد ومنها انشودة: »في طريق النصر سيروا وعلى الاعداء ثوروا«.
أمة تمحو الفساد إلخ
إلى أن وصل الطلاب المقام في منطقة خارج المدينة يقال لها ضربت علي وهي حارة المسبح في تعز حاليا وبعدها هرب الطلاب الذين لهم علاقة بالاضراب فرادى متنكرين وعن طريق الراهدة إلى عدن وبعضهم هرب من طريق آخر يقع خلف صالة ثم إلى ما بعد الراهدة..
> وماذا عن الطلبة الصغار¿
- نحن الطلبة الصغار بقينا حتى قال لنا بعض الناس نروح نراجع الإمام ونقول له: «نحن أطفال صغار ما لنا علاقة بالإضرابات» وفعلنا ذلك وأصدر نائب الإمام الوشلي أمر بإرجاعنا إلى المدرسة بناء على أمر الإمام وقالوا نقول: «الله يحفظ الإمام» بعد أن كنا في منطقة ضربة علي منطقة المسبح حاليا نقيم في العراء وتجار تعز وآخرون يمدوننا بوسائل البقاء من أكل ودفاء سراٍ.
> ومن كان يحضر الأكل لكم¿
- أشخاصاٍ لانعرفهم احيانا في جنح الظلام وأحيانا مع شباب صغار وأتذكر إننا بقينا في تلك المنطقة يومين أو ثلاثة أيام.. وللحقيقة لقد كان ثمة أناس وطنيون سواء في المدنيين أو داخل أجهزة الدولة والسلك العسكري وكان تعاطفهم معنا يشعرنا إن كثيراٍ من هؤلاء قد طفح بهم الكيل وأنهم ضد الإمام.. وأتذكر منهم شخصاٍ كان يدعى علي مانع كان مدير الأمن وكان يبدو رجلا طيباٍ وعصرياٍ يحاول بلطف إقناع الطلبة بمراجعة الإمام والعودة إلى المدرسة ويتعامل بشكل عاطفي مع المضربين وكأنهم أبناؤه فلا يسمح بضربهم أو إهانتهم وكان يحاول يحاورهم في إطار ودي يغلب عليه التعاطف والاحترام.
موت الإمام
> كيف تلقى الناس وكيف سمعتم بموت الإمام¿
- أول ما سمعنا عن موته من راديو صنعاء بعد عودته من روما حيث كان يتعالج هناك يتعالج وقالوا إن الإمام قد مات منذ فترة ولكن مخفيين موته وهذه التضاربات ساهمت أكثر في تهيئة الناس والمجتمع لشيء أسمه الثورة.. لأن الجميع كان يخاف الإمام أحمد ولا يريد أحد نشر خبر موته قبل التأكد من الخبر.. والمشهد الذي لا زلت أتذكره عن الأجواء الطلابية حينها.. إن الطلبة الكبار كانوا يتجمعون حول المذياع أمام المدرسة يسمعون خطاب محمد البدر ولي العهد الذي أكد موت أبيه وتولى الإمامة بعده وما أصدره من تهديدات وأنه سينهج نهج أبيه في العنف والقتل لكل مناوئ لحكمه فكان البعض يشتم البدر ويقول الديمة الديمة وإنما خلفنا بابها وفي الاسبوع الثاني تجمع العشرات من الطلبة حول الراديو ليستمعوا من جديد إلى البيان الأول من إذاعة صنعاء بقيام الثورة وإعلان الجمهورية ثم يهتفون تحيا الجمهورية والثورة .
خبر الثورة
> أين وكيف سمعتم خبر الثورة¿
- كنا حينها في المدرسة وإذا بي أسمع الطلاب وأناساٍ خارج المدرسة يصيحون «عاشت الثورة عاشت الجمهورية.. ولم أكن أعلم ما هي الثورة ولا ما هي الجمهورية.. وبدأ بعض الطلبة يجمعون علب الحليب الفارغة ويعبونها بالرماد والتراب ويصبون عليها القاز بعد أن ثبتوها على أعواد من الخشب على شكل عصي ثم اشعلوها في المساء وساروا يرددون الهتافات للثورة والجمهورية في انحاء المدينة وبدأ الناس أيضاٍ بحماس عجيب يشعلون النيران من بعد غروب نهار ذلك اليوم الذي سمعنا فيه خبر الثورة والجمهورية من أسطح المنازل وهكذا كان ذلك الليل في تعز في أول أيام الثورة وكانت أصوات الناس وهتافاتهم تصل إلينا من الشارع الذي يمر من أمام المدرسة شارع 26سبتمبر حالياٍ وهم في غاية الفرح والسرور والشيء الذي أتذكره أن شخصا من المتجمهرين في الشارع كان يقول بصوت عالُ (سبايا للجميع) وهي أكلة كانت لاتقدم سوى في الأعياد والمناسبات تشبه بنت الصحن.
> بعد الثورة استمريتم في المدرسة الأحمدية ما الذي تغير في التعليم¿ وفي الحياة¿
- استمريِنا بعدها حوالي ستة أشهر كما أتذكر وبعدها انتقل كثير من وإلى مبانُ جديدة كان بعضها مكاتب ومساكن للنظام السابق وبعضها قصور الإمام ومنها دار الناصر قرب حي الأشرفية وما سمي فيما بعد مدرسة ناصر الحالية التي تعلمت فيها المرحلة الابتدائية ثم انتقلنا إلى مدرسة الكويت الإعدادية ثم الى مدرسة الشعب الإعدادية التي بنيت بمساعدات الاتحاد السوفييتي وكانت من أرقى مواقع التعليم في تعز كما بنيت الأولى بمساعدة الكويت وهي من أوائل المدارس الجديدة في اليمن عقب الثورة.. أما الذي تغير في الحياة هو الانتقال إلى دار الناصر قرب حي الأشرفية الذي يعد أحد دور الإمام ومعاونيه لنسكن فيه بدلاٍ عن المدرسة الأحمدية التي تغير اسمها إلى مدرسة الثورة.. وللأسف إنه تم هدم المدرسة وأعيد بناؤها لاحقا من جديد فضاعت الملامح السابقة كاملة تقريبا وتحول الجزء السكني فيها إلى فصول للدراسة ولم يبق من الماضي الذي يميز معالم هذا المكان سوى قهوة صغيرة عند مدخل المدرسة على الشارع اشتهرت بمقهاية الإبي وعندما نقل الطلبة ليسكنوا في دار الناصر كانوا يقولون إنه تقدير لدور الطلبة الثوار.. بعد ذلك بدأت المدارس بالظهور وكان من أوائل المدارس الثانوية في تعز مدرسة جمال عبد الناصر.. وبدأ وصول المدرسين المصريين إلى عموم اليمن للتدريس في مدارس الجمهورية.. وأتذكر أن المصريين جاءوا ليس فقط بالمدرسين والكتب المدرسية وإنما أيضا بالعمال الذين ساهموا في بناء مدرسة عبد الناصر الثانوية حيث لم يعرف اليمنيون بشكل واسع استخدام الاسمنت والحديد في البناء..
المد القومي
> ماذا عن نشوء المدِ القومي¿
- المد القومي في اليمن بدأ ينمو ويكبر خاصة في أوساط الطلبة والتجار ولدى النخب السياسية والفكرية من واقع التأثر بمجريات التغيرات في الساحة العربية والعالمية خاصة في مصر التي أصبحت ثورتها أبرز معالم التغيير الحديث في العالم العربي وربما في العالم الثالث وكانت أذاعة صوت العرب وزارة إعلام الثورة العربية… فجاء الكثير من المدرسين المصريين إلى اليمن وعززوا الاتجاه القومي وافتتح المركز الثقافي المصري بتعز ووزعت الكتب السياسية في أنحاء البلاد.. وبدأ يعترك شيء جديد ولأول مرة تقوم فرق التعبئة في الجيش المصري من عرض الافلام السينمائية في الميادين العامة في صنعاء وتعز المدينة و كان الناس يتسابقون لمشاهدتها بالعشرات في غبطة وسعادة إنهم يرون شيئا جديدا لم يسبق رؤيته من قبل وكنا نحضر هذه المشاهدات ولكننا لا نفقه كثيرا في اللهجة المصرية إلى أن اصبحت لدينا فيما بعد مفهومة بسبب احتكاكنا بالمصريين خاصة المدرسين..
النظام الجمهوري قاسم وطني
> بعد ذلك ثبتت صورة النظام الجمهوري .. فماذا تغير في حياة الناس ¿ وهل ظل حماس الناس والتفافهم حول القاسم الوطني المشترك المتمثل بالنظام الجمهوري¿
- أحوال لناس بدأت تتغير تماماٍ للأفضل وبدأت تظهر في شكل حياتهم اليومية وحماسهم وتفاؤلها بالنظام الجمهوري لأنهم كانوا يعيشون ظلماٍ ليس القهر فحسب بل وظلم الحياة نفسها التي يعيشونها أمراضاٍ وفقراٍ وجهلاٍ ولهذا كان الوعي الوطني والثوري موحداٍ لدى كل الشرائح الاجتماعية والسياسية والجماهيرية.. الساعية للتغيير.. لكن ما هي إلا فترة قصيرة وظهرت أكثر من قوى سياسية في الساحة تتجاذب الطلبة وتحرك العمل السياسي في كل الاتجاهات وبدأت المضايقات من أطراف المصريين بالمخابرات للقوى السياسية المخالفة التي لم تلتزم الخط الناصري خاصة من كان يطلق عليهم أنذاك الحركيين أو البعثيين وأصبحوا خصوما بعد أن كانوا أصدقاء للناصرية.
> بعد الثورة هل كان يتساءل الناس من سيحكم بعد الإمام حتى تظهر هذه القوى خلال السنوات الأولى للثورة..¿
- لا.. لم يكن ذلك في ذهن الناس.. كلما في ذهنهم هو إبعاد الإمام والإمامة ومن حكم اليمن. فكان الناس مندفعين كلهم في الثورة والدفاع عنها ولذلك أول ما أن أعلن عن قيام النظام الجمهوري أنشئت هيئة الحرس الوطني وهب الجميع للالتحاق في صفوف الحرس الوطني بدأت تعز تستقبل الجموع من كل انحاء اليمن للتدريب ثم السفر إلى صنعاء للدفاع عن الثورة والجمهورية كانت تعز رافدا أساسيا للدفاع عن الثورة بالرجال وبالمال وبالإعلام وكان ذلك لاشك بحكم الوعي الذي كان يتنامى باستمرار نحو التغيير والعصرية في هذه المنطقة وكذلك في صنعاء فتحت الكليات العسكرية ودخل فيها الآلاف من الطلبة والمجندين لخوض ملحمة الدفاع عن الجمهورية الوليدة تدافعوا إلى صنعاء من كل انحاء اليمن.
وأتذكر شخصاٍ اسمه أحمد حسن محسن رحمه الله من قرية الخريب مديرية السدة سبق ذكره بين القادات الطلابية تجند في الحرس الوطني وظل في جبهات القتال أعواما طوال وحين الح عليه والده لأخذ إجازه ليتزوج عمل ذلك وقضى بعد الزواج أقل من إسبوعين وعاد إلى جبهة القتال واستشهد بعد زواجه فكان حديث المنطقة كلها وهذا مؤشر يدل على أن الناس كانوا مندفعين ومقاتلين من أجل بقاء النظام الجمهوري.
> كنت من الذين دخلوا في سلك المقاومة الشعبية فيما بعد الوطني التي كانت خط الدفاع الموازي للحرس الوطني عن الثورة في تلك الفترة فكيف نشأت المقاومة الشعبية¿
- بعد الثورة كان الخوف يحاصر الناس من عودة الملكية إلى واجهة الحكم على إثر بقائها تحارب في بعض المناطق في الشمال معززة بالدعم الخارجي القوي إقليميا ودوليا وفي هذه الفترة بدأوا يتحدثون عن المقاومة الشعبية كضرورة للدفاع عن الجمهورية التي طالما حلم بها الناس فهي في خطر خاصة بعد عودة القوات المصرية إلى مصر بعد هزيمة 1967م حزيران فاندفعنا كطلاب تحت تأثير الحماس مع الثورة والجمهورية..
وأتذكر أن هذه البطاقة التي لا زلت احتفظ بها قطعت في تلك الفترة بتوقيع العقيد يحيى مصلح مهدي حينها الذي جاء إلى تعز لحشد المقاومة الشعبية.. كان الشعار فيها الموت من أجل الجمهورية.. فجمعونا في ميدان العرضي وهو ميدان الشهداء حالياٍ وأتذكر أن يحيى مصلح كان يخطب في الميدان عن أهمية الدفاع عن الجمهورية والثورة وإن الملكيين يحاصروا صنعاء.. وكان عدد من الضباط بما فيهم الكابتن علي محسن المريسي -رحمه الله- وضابط آخر اسمه أحمد صالح القدسي وآخرون أيضا يقومون بتدريبنا في ميدان الشهداء بتعز وكان يحيى مصلح مهدي هو المحور الرئيسي داخل تعز لتنظيم المقاومة الشعبية شخصية محترمة جاذبة بفعل خطاباته الحماسية التي كان يبثها في أوساط الناس في تعز وسلموا لنا سلاحاٍ شيكياٍ وبعضاٍ ايطالياٍ من بقايا أسلحة الحرب العالمية بعد ذلك أخذت المقاومة الشعبية منحنيات وتوجهات عديدة منها منحنيات حزبية وسياسية وظهور صراع سياسي تمحور في حركة القوميين العرب والناصريين خاصة جبهة تحرير الجنوب والبعثيين وغيره كانت تلك هي القوى التي تتحكم في الشارع السياسي في تعز وفي صنعاء إلى أن ظهرت فيما بعد القوى العسكرية المتحالفة مع القوى القبلية فحدث الصراع وغلبت شوكة القديم على ما اعتقد أنه الحداثي المتمثل في تلك القوى القومية والليبرالية وأصبحت المقاومة الشعبية طرفا ملاحقا ومتهما بالعمالة للخارج وحتى وصل التكفير لمن هم فيها.
زيارة جمال عبد الناصر لتعز
> عودة إلى العام1965م وزيارة جمال عبدالناصر لتعز.. أين كنت حينها وكيف كانت أجواء الناس في تلك الزيارة ¿
- كنت موجوداٍ في تعز ولا زلنا حينها طلاباٍ يقودنا الحماس الكبير.. وأتذكر إننا خرجنا إلى خارج تعز لاستقباله في منطقة بير باشا قريب المطار القديم فشاهدت أمواجاٍ بشرية تدفقت من كل أنحاء المحافظة وبعضهم جاء من عدن للمشاركة في الاستقبال وظهر عبدالناصر في سيارة مكشوفة وسارت السيارة بين الجموع وإلى جانبه الرئيس عبدالله السلال حتى وصلت إلى ميدان الشهداء في العرضي وألقى خطاباٍ شهيراٍ لا تنساه تعز ولا من كان فيها في وقت الثورة في الشمال وفي الجنوب في منعطف تاريخي حاسم ومن ضمن ما ورد في خطابه أن على بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل من أرض الجنوب وارتفعت وتيرة الكفاح المسلح بدعم مصري مادي وإعلامي بعد الزيارة التاريخية لجمال عبد الناصر وكانت تعز حاضنة لثوار الجنوب ومكانا لتدريبهم وتسليحهم وانطلاقهم.
> وماذا عن السلال¿
- كان السلال إلى جانب عبدالناصر في نفس السيارة وفي نفس المنصة في ميدان الشهداء وقد ألقى خطاباٍ قبل جمال عبدالناصر مشيداٍ بالدور المصري والتضحيات المصرية في معارك الدفاع عن النظام الجمهوري وثورة السادس والعشرين من سبتمبر وأمتدح جمال عبدالناصر وأدواره القومية العربية .
> هل تتذكر أين نزل جمال عبدالناصر في تعز خلال زيارته لها¿ وكيف بدأ الخلاف داخل الصف الجمهوري¿
- أتذكر أنه لم يكن في تعز أي دار لضيافة يليق بمكانة هذا الزعيم العربي جمال عبد الناصر فأْنزل في أعلى مكان في تعز في مدرسة هي الآن فوق المستشفى الجمهوري مدرسة أروى أول مدرسة للبنات بنيت في تعز تقع في أسفل جبل صبر وربما أن ذلك البعد عن المدينة لدواعي امنية كما فهمت فيمابعد لاتوجد فنادق ولاضيافات ولا أي مبنى للسكن حتى لمن هم دون الرؤساء.
طبعاٍ بعد زيارة جمال عبدالناصر لليمن حصلت تحولات هامة على صعيد أنصار الثورة والجمهورية فما هي إلا أشهر على ما أتذكر إلاِ و تحولت القيادة العربية في تعز إلى العمل السياسي تساند هذا وتقف ضد ذاك حتى برز الصراع على أشده في الساحة السياسية عموما فالقيادة العربية كانت لاتريد أي قوى سياسية غير الناصرية وكان التسابق على اشده بين مختلف القوى السياسية لكسب الطلاب إلى هذا التنظيم أو إلى ذاك..
وما كان يحدث أن أي فرد يرى وهو يمشي أو جالس إلى جانب حزبي يصنف تلقائيا أنه مع ذلك الحزب وتسود الخصومة بين الجميع وتتحول الاحزاب إلى مواقع للتهيئة إلى حروب قادمة الحركيون لهم مقاهُ يتجمعون بها والبعثيون لهم أيضا وكذلك الناصريون والكل ضد الكل وتلك من عجائب الحزبية في ذلك الزما ن ورحم الله جارالله عمر الذي قطع المسافات وقارب بين الاحزاب وجعلها اليوم في وقتنا الراهن متحالفة بعد أن كانت متنافرة ومتعادية على طول الوقت وهكذا.
وبدأت الانتقادات تطال السلال لتعاونه المطلق مع المصريين لقمع القوى الجمهورية وأتذكر إن بداية رياح الخلاف كانت في صنعاء عند ما خرجت مظاهرة ضد المصريين في عام 67م حيث عبرِت تلك المظاهرة وما رافقها من عنف عن صراع خفي ظهر إلى العلن في ذلك الوقت.
وكان العداء ضد المصريين من قبل تكتلات داخل الصف الجمهوري شديداٍ ليس عداء للناصرية وإنما لما كانت تقوم به أجهزة الاستخبارات المصرية من قمع واعتقال للمعارضين السياسيين عندما بدأت أساليب القمع المصري للقوى التي تعارضهم حدث رد الفعل ثم حدوث الصراع المفتوح بين حلفاء الأمس من الجمهوريين وحصل التشظي وفتح الصراع على جميع الاحتمالات في الساحة..
المقاومة الشعبية وحصار السبعين
> أين كنت أو أين كانت المقاومة الشعبية أثناء حصار السبعين¿
- كانت المقاومة الشعبية صوتاٍ كبيراٍ جداٍ وفعلاٍ مؤثراٍ في الواقع السياسي وأعتقد إنه من حيث الفعالية العسكرية لم تكن بالمستوى المطلوب الذي يمكنها من مواجهة جيوش قبلية وعسكرية مدربة ومحنكة ومهيأة للحروب لاسقاط النظام الجمهوري تزحف على عاصمة الجمهورية صنعاء بسرعة كبيرة ربما كانت المقاومة في صنعاء على درجة أعلى من الناحية العسكرية من غيرها في المدن الأخرى بحكم تواجد القوات الجمهورية المدربة على أيدي المصريين التي ساعدت في تأهيلها لكن كما اعتقد إن المقاومة كانت صوتاٍ شعبياٍ وإعلامياٍ أكثر من كونها قوة عسكرية فاعلة في ميدان الحروب لعوامل كثيرة منها الفترة الزمنية ونوعية التدريب وغيره اضفت المقاومة على المقاتلين في الجبهات الروح المعنوية والثقة بالنفس والمدد البشري والصبغة الشرعية الشعبية أمام الرأي العام المحلي والدولي بالتفاف الشعب للدفاع عن الجمهورية وكان الشعارالمرفوع من الجميع (الموت من أجل الجمهورية) وهذا أوجد الخوف وأنزل الذعر في نفوس الاعداء وساعد على تحقيق الانتصار العظيم في فك الحصار هذا إذا ما استثنينا الشيخ أحمد عبد ربه العواضي رحمه الله وبعض مشائخ القبائل الذين قاتلوا في الدفاع عن صنعاء كان لدى العواضي والجموع من المقاتلين حوله خبرة عسكرية وشجاعة كبيرة كانت عونا إضافيا لأبطال الجيش الذين فكوا الحصار وهزموا فلول الملكيين.
مرحلة الفرز السياسي
> كيف كان الجو العام بعد فك حصار السبعين وهل ظل الزخم الحماسي كما كان إلى جانب النظام الجمهوري¿
- كانت فرحة الناس كبيرة وشعورهم عظيماٍ بالانتصار ولكنها أشهر معدودات مضت على هذه الفرحة حتى بدأ الفرز السياسي وحتى المناطقي يظهر في صفوف من كانوا بالأمس في خندق واحد للدفاع عن الثورة والجمهورية أزداد الشرخ في الصف الجمهوري وعادت القوى التقليدية خصوصاٍ بعد أحداث أغسطس1967م قوية ومتماسكة إلى درجة أننا حوصرنا كمقاومة شعبية في دار الناصر بتعز وهجموا علينا بقوات الأمن وبعضنا هرب بسلاحه وبعضهم سلب السلاح منهم وحدث ذلك في الحديدة وصنعاء وكان هؤلاء المقاومون أعداء مستهدفين في هذه الفترة.
> هل كان لهذا علاقة بالمصالحة التي عقدت من الجمهوريين والملكيين وبالنسبة أين اتجهت بعد ذلك¿
- لا أعتقد أن لهذا أي علاقة تذكر ولكن القوى التقليدية المنضوية في الصف الجمهوري بدأت صراعاٍ جديداٍ مع القوى الأخرى على مكاسب سلطوية وسياسية.. إذ بدأت هذه القوى تتجمع بعد 1967م للسيطرة على المشهد السياسي وعلى الحكم وكانت تسير في اتجاه مغاير لما كان الجميع عليه قبل وأثناء الحصار وبدأ الفرز السياسي على كل المستويات بينما القوى السياسية الحداثية والتي دافعت عن الثورة أثناء الحصار لم تكن على قاعدة شعبية عريضة وقوية لمواجهة القوى التقليدية كانت نخبوية أكثر منها شعبية إمكانيات متواضعة وحركة محدودة.. حتى التفكير السياسي إذا تأملناه الآن سنجد أنه غير عميق وغير واقعي إذا ما تمت المراجعة النقدية فالقوى التقليدية عندها خبرة تاريخية ووجود اجتماعي أكبر من قوى الحداثة.. وهي قوى برجماتية في جميع الأحوال..
وأتذكر إنه عندما نزل الفريق حسن العمري رحمه الله إلى تعز بعد فك الحصار ودحر الملكيين استقبلته تعز استقبال الفاتحين خرج الجميع مبتهجين لاستقبال بطل من أبطال السبعين لم يكن هناك فرز بين جمهوري وآخر كانت الجمهورية هي القاسم المشترك بين الجميع والأبطال هم الأبطال الذي فكوا الحصار من هذه المنطقة أومن تلك وكان ذلك المشهد في الاستقبال والحفاوة أبرز ملامح التعبير عن صدق الناس وحبهم للعهد الجمهوري الجديد تحت شعار الجمهورية أو الموت ولم يكن لديهم أي بعد طائفي أو عنصري أو مناطقي أو سياسي سلطوي.. كل ذلك لأن الفريق حسن العمري بطلاٍ من أبطال السبعين يوماٍ وله مواقفه الوطنية والنضالية.المشهودة.
> -مقاطعاٍ- بعدها ما الذي تغير في حياة العمري.. وما أثير حوله من عداءات من قبل الجمهوريين¿
- عندما بدأ الفرز السياسي الخطير على مسار الجمهوريين وجد العمري نفسه محسوباٍ بطبيعة الحال على القوى التقليدية أي في الصف الآخر لكونه كان قطباٍ بين القوى التقليدية منذ الأربعينيات من القرن الماضي رغم جمهوريته ومواقفه النضالية والوطنية فلا يمكن أن يكون في صف عبد الرقيب عبد الوهاب ولا في صف القوى التي تعتبر نفسها التيار الحداثي خاصة وقد اتهمت تلك القوى الحداثية بالعمالة للشيوعية ولصالح جهات خارجية لعزلها عن الشعب وزادت وتيرة هذا الصراع خصوصاٍ بعد المصالحة بين الجمهوريين والملكيين..فكان الصف التقليدي أكثر قوة وتماسكا وحدث قبل ذلك انقلاب 5 نوفمبر 1967م.
الشرعية الشعبية والجماهيرية
> عودة للمقاومة الشعبية وفترة ما بعد المصالحة.. هل كانت المقاومة الشعبية عامل حسم في الدفاع عن الثورة ¿ وفي الثبات في دوامة الفرز السياسي¿
- لا .. لم تكن عامل حسم عسكرياٍ إذا ما استثنينا الجناح القبلي الذي يقوده العواضي وأنا أشرت إلى أن المقاومة كانت صوتاٍ إعلامياٍ عزز من صفوف المدافعين عن الثورة والدفاع عن النظام الجمهوري لدى الرأي العام المحلي والدولي.. ووحده الجانب العسكري كان عامل الحسم الميداني بحكم الآلة العسكرية والتدريب العالي لجنود وضباط الثورة.. أما فترة ما بعد المصالحة واتساع دائرة الفرز السياسي فالمقاومة الشعبية اختفت وتحولت من ظاهرة مسلحة إلى ظاهرة سياسية مطاردة حيث قْضي على الصاعقة وقْضي على فرق المظلات وعلى المجاميع التي كانت المدافع الرئيسي عن الثورة وذلك القتال في أغسطس 1968م بين رفاق الأمس خسارة كبيرة وهذا الاختفاء القسري لكل القوى الفاعلة أفرز نتائجه محددة لمسار مرحلة ما بعد الحرب حيث توارت المقاومة الشعبية نهائيا من المشهد منهم من هربوا ومنهم من استغلوا سياسياٍ ومنهم من دخل السجون الرهيبة حق محمد خميس وذاقوا شتى أنواع التنكيل والعذاب والقتل وبرزت كرد فعل على ذلك الجبهة الوطنية التي كانت تنشط عسكريا وسياسيا في المناطق الوسطى واستنزفت فيما بعد كثير من مقدرات الدولة في حروب دامية بين قوى تقليدية وقوى تسعى نحو الحداثة بدأت في مطلع السبعينات ولم تنته بل ظلت آثارها قائمة في احتدام الثأر السياسي بين التقليدي والمعاصر.
أخيـــراٍ
> أخيراٍ.. كي لا نتوه في تفاصل تشكل الجبهات السياسية والفــرز السياسي الذي رافق فترة الارياني وما تلاه.. باختصار أستاذ شائف.. كيف تلخص انتقال اليمن من الملكية للجمهورية ¿
- باختصار الثورة اليمنية نواتها كل أولئك الأحرار الذين اجمعوا على الانتقال من نظام ملكي إلى نظام جمهوري.. لكن الثورة بتفاصيلها الجمة والمعقدة وحقائقها التي لا تزال معظمها غائبة .. مرت بثلاث مراحل كما أعتقد.. المرحلة الأولى هي مخاض التخلص من الإمامة وكان هذا الإطار المرحلي الذي تزايد منذ أواخر الخمسينيات يجمع كل اليمنيين عسكريين مدنيين رجال أعمال مشايخ طلاب.. حتى قيام الثورة وإعلان الجمهورية وهي المرحلة الأساسية التي كانت منطلق الثورة وأساسه المرحلة الثانية هي مرحلة الثورة والدفاع عنها حتى الانتصار في فك حصار صنعاء في 1967م بينما المرحلة الثالثة وهي مرحلة انحراف السير على المبادئ من خلال ظاهرة الفرز السياسي والصراع السياسي قوى حداثية وقوى تقليدية وقوى حداثية يمينية وحداثية يسارية وقوى تقليدية يمينية وقوى تقليدية يسارية..
بدأت الحركة الطلابية بالاحتجاجات ثم تطورت للإضراب ثم للمواجهة وحصار الطلاب داخل المدرسة أسبوعاٍ كاملاٍ حتى هدد جنود الإمام باقتحام المدرسة
بعد خروج الطلاب من الأحمدية هرب الكبار متنكرين وواصل الصغار سيرهم نحو الإمام في قصر المقام بالجحملية
في 1965م التحقت بالمقاومة الشعبية ولا زلت احتفظ ببطاقة الانتماء الموقعة حينها من قبل قائد فرع تعز المقدم يحيى مصلح مهدي
المقاومة الشعبية لم تكن عامل الحسم الميداني في حصار السبعين لتواضع امكاناتها التسليحية لكنها منحت القوات المسلحة شرعية الصمود والانتصار للنظام الجمهوري