
لقاء/ عباس السيد –
{ لا يوجد شخص في مدينة تعز لا يعرف بوفية الإبي الواقعة في شارع 26 سبتمبر بين مدرستي الثورة وناصر.. البوفية أو “الهْتيل” كما كانت تسمى عند افتتاحها عام 1952م كانت شاهدة على الكثير من الأحداث والوقائع التي مِرتú بالمدينة وخصوصا خلال العقدين السادس والسابع من القرن العشرين وهما عقدان مفصليان في التاريخ المعاصر لليمن إذ يشكلان نهاية حقبة النظام الملكي وبداية عهد النظام الجمهوري.
كانت بوفية الإبي في سنواتها الأولى هي الأشهر بين مجموعة من المقاهي أو ما كانت تعرف بـ”الهْتيلات” وعددها لم يكن يتجاوز أصابع اليد الواحدة في المدينة التي لم يتخط عمرانها آنذاك حدود الشارع المعروف حاليا بشارع 26 سبتمبر.
اكتسبت البوفية شهرتها تلك من موقعها الملاصق للمدرسة الأحمدية التي كانت تعد أكبر صرح تعليمي في المدينة خلال الحكم الملكي وقد كانت بمثابة الرئة التي تنفس من خلالها آلاف الشباب نسمات التغيير وعبير الحرية.. هذا أولاٍ.. وثانياٍ: بسبب مستوى الوعي الذي كان يتمتع به “الأخوان عبدالله” الشريكان في تأسيس البوفية وإدارتها وهما أخوان من أم واحدة الأول: عبدالله يحيى الحشاش والثاني: عبدالله يحيى الجرافي وقد غلب لقب “الإبي” على اسميهما لكونهما من مواليد إب.
توفي الأول “عبدالله الحشاش” قبل حوالي أربع سنوات بينما لا يزال عبدالله الثاني يمارس عمله بحيوية مدهشة وبشاشة جاذبة وعندما زرته في بوفيته أواخر اغسطس الماضي وعرضت عليه أن نجلس سوية لنستعرض ذكرياته في خلال تلك الفترة رِحب بالفكرة.. توقف عن العمل وانزوينا في ركن جانبي وسألني في البداية عن المساح وبجاش وطه عبدالصمد وآخرين لا أعرفهم وخلال 90 دقيقة كنت أشعر أنني أمام سياسي من الطراز الأول وليس أمام صاحب مقهى.
يتحدث عبدالله الإبي بإعجاب شديد عن مستوى الالتزام والانضباط والوعي الذي كان يتميز به طلاب المدرسة الأحمدية داخل المدرسة وخارجها أيضا.. ومع أنهم كانوا يجدون في “هتيل الإبي” متنفساٍ للتحرر من صرامة النظام المفروض داخل المدرسة ـ التي كانت مكاناٍ لتعليمهم وإقامتهم أيضا ـ إلا أنهم كانوا لا ينزلقون في سلوكهم وتعاملهم إلى مستوى أقرانهم من الشباب في المدينة وعلى سبيل المثال: كان البعض منهم لا يجاهر بتدخين السجائر في البوفية ويضطرون إلى إخفاء رؤوسهم تحت الطاولات وإبعاد الدخان المتصاعد خوفاٍ من أن يصادف ذلك مرور أستاذ في المدرسة أو حتى رئيس الطلبة الذي كان له كلمة مسموعة لدى زملائه ويتمتع بصلاحيات لمعاقبة وتأديب أي طالب يخل بالنظام أو يسيء التعامل والسلوك ومن رؤساء الطلبة الذين يتذكرهم الإبي محمد الذاري ومحمد مرغم في فترة لاحقة.
كان جْل رواد بوفية الإبي من طلاب المدرسة الأحمدية فالشارع المعروف حاليا بـ 26 سبتمبر لم يكن حينها محدد الملامح أو الاتجاه والمزارع والأحراش تحاصره من كل اتجاه كما أن إقبال غير الطلاب على ” الهتيلات ” في تلك الأيام كان محدوداٍ جداٍ.
نافذة على العالم
بالنسبة لطلاب المدرسة الأحمدية لم تكن البوفيه مجرد مكان للاستراحة من الحصص الدراسية أو الحلقات العلمية وتناول المشروبات والمأكولات فقط بل كانت الراديو هي العامل الأكثر جذبا للطلاب.. إذا لم يكن المكان مجرد بوفية أو مقهى فقط بل كان أشبه بنافذة يطل من خلالها الطلاب على العالم.
طلاب المدرسة الذين كان معظمهم من خارج المحافظة ومن الأيتام كانوا ينصتون باهتمام لا يخلو من الدهشة لصوت المذياع في بوفية الإبي فقد كان الراديو محظوراٍ داخل المدرسة ومحدود الانتشار خارجها.
يبدأ العمل بالبوفية في السادسة صباحا وينتهي عند التاسعة مساء ـ موعد سريان حظر التجول الليلي المعروف بـ”اليسك” بفتح الياء والسين وهي كلمة متوارثة من عهود الحكم التركي ـ وقد كان “الشاي الأحمر” هو المشروب الرئيسي والوحيد المقدم في البوفيه أما الشاي بالحليب فقد كان شربه محدوداٍ جداٍ وسعره ضعف سعر الأحمر.. كان سعر كوب الشاي بالحليب بقشة واحدة بينما سعر الأحمر بيسة واحدة فقط ” الريال يساوي 40 بقشة والبقشة تساوي بيستان”.
في تلك السنوات كان “الساندويتش” لا يزال اختراعاٍ مجهولاٍ في اليمن وعوضاٍ عن ذلك كان الطلاب يتناولون الكدم الذي يصرف لهم من المدرسة ـ كإعاشة ـ مع الشاي الذي نقدمه لهم في البوفيه.. وكان يخصص لكل طالب أربع كْدم وكان الطلاب في المستويات المتقدمة يتميزون عن سواهم من الطلاب بنوعية الكدم فكانوا يستلمون كدمتين “خاص” وهي مصنوعة من دقيق القمح وكدمتين “عادي” وتصنع من عدة أنواع من الحبوب بينما يقرر للطلاب في المستويات الدنيا أربع كدمات من النوع العادي.
في مطلع العقد السابع من القرن العشرين ـ أوائل الستينيات ـ كان الحراك السياسي المعارض لسياسة النظام الملكي قد أخذ في التغلغل بين فئات وشرائح واسعة من اليمنيين واتخذ أشكالاٍ وأنماطاٍ جديدة في التعبير عن الرفض والرغبة في التغيير وكانت “العاصمة تعز” هي بؤرة ذلك النشاط ومحوره.
يتذكر عبدالله الإبي ـ الشريك الثاني في ملكية بوفية الإبي ـ الحدث الأبرز في تاريخ المدرسة الأحمدية والمتمثل في الإضراب الشهير لطلاب المدرسة احتجاجاٍ على المستوى المتردي لنظام الإعاشة السائد في المدرسة وقد كان ذلك في ما يبدو مجرد ذريعة شكلية للتظاهرة التي أخذت أبعاداٍ سياسية واضحة حيث مزق الطلاب صورالإمام أحمد وهتفوا بحياة الزعيم جمال عبدالناصر ورفعوا صوره.
اعتصم الطلاب داخل المدرسة لأيام وتم محاصرة المبنى بأعداد من الجيش والعربات العسكرية كما قطعت عنهم المياه والأغذية والإنارة من أجل الضغط على الطلاب وفض الاعتصام الذي بات حديث المدينة وشغلها الشاغل في تلك الأيام ولم تكن الحراسات المفروضة على المدرسة قادرة على منع الأهالي من كسر الحصار المفروض على الطلاب حيث تداعى أهل المدينة من التجار والميسورين وأقارب الطلاب وتمكنوا بطرق مختلفة من تزويد الطلاب بالغذاء والمياه وكل ما يحتاجونه.
نقطة اتصال
في تلك الأثناء توقفت بوفية الإبي عن العمل ولكنها لم تغلق أبوابها وظلت نقطة اتصال بين تنظيم الأحرار في المدينة والطلاب داخل المدرسة وكانت أخبار قد تسربت في المدينة عن اعتزام الجيش قصف المدرسة بالمدفعية.. ويستطرد عبدالله الإبي: جاء أحد الأشخاص إليِ واستدعاني لمقابلة علي محمد سعيد ” رجل الأعمال المعروف في مجموعة هائل حاليا ” وطلبوا مني الدخول إلى المدرسة وحث الطلاب على الصمود في مواقفهم وأن التهديدات بقصف المدرسة بالمدفعية غير حقيقية وليست سوى إشاعة كاذبة تهدف إلى تخويفهم وثنيهم عن مواقفهم كما أعطاني على محمد سعيد بعض النقود التي تبرع بها هو وعبدالملك الأصبحي وتجار آخرون وكلفوني بتسليمها للطلاب.
ويضيف الإبي: أخفيت النقود تحت ملابسي ودخلت إلى المدرسة وقد كانت معنويات الطلاب عالية وفتحوا لي باب غرفة كبيرة بالمدرسة وقد تحولت إلى مخزن كبير يحتوي على كراتين من البسكويت والتونا والخبز والشمع والكبريت والكيروسين وغيرها من السلع والأغذية الطازجة والمعلبة التي كانت تصل إليهم من أهل المدينة.
وصل الإضراب آخر فصوله بخروج الطلاب من المدرسة بعد التماس قدمه القاضي عبدالرحمن الإرياني للإمام أحمد.. الطلاب الذين كان عددهم بضع مئات تفرقوا في أنحاء المدينة خوفاٍ من انتقام الإمام وتوجه بعضهم مباشرة نحو عدن فيما استطاع أعوان الإمام جمع العشرات من الطلاب وساقوهم في صفوف منتظمة باتجاه مقر الإمام في العرضي وهم يهتفون بحياة الإمام التي لم تدم طويلا بعد تلك الحادثة حيث توفي الإمام بعد أقل من عام ليسدل الستار نهائياٍ على تلك الحقبة من تاريخ المدينة والمدرسة واليمن عموماٍ وبدأت بعده مرحلة جديدة في تاريخ اليمن واليمنيين.
إضراب سابق
قبل إضراب المدرسة الأحمدية كانت المدينة قد شهدت إضراباٍ هو الأول من نوعه في تاريخها بل في تاريخ مملكة الإمام حيث دخلت المدينة في إضراب شامل دعت إليه نقابة العمال التي تأسست سراٍ في ” النقطة الرابعة والتي أفردنا لها موضوعا خاصا ضمن هذا الملف ” وقد كان عبدالله الإبي مسؤول قطاع المطاعم والفنادق في النقابة ” السرية “.. أغلقت الكثير من المحلات التجارية أبوابها استجابة لدعوة النقابة وقاد عامل الإمام في المدينة ” حمود الوشلي ” حملة في شوارع المدينة بصحبة الكثير من الجنود وكانوا يقومون بإضافة قفل آخر فوق أبواب المحلات المغلقة وكان أصحاب المحلات التجارية الذين يغلقون أبواب محلاتهم من الداخل يجدون أنفسهم في ورطة حقيقية.
في تلك الأثناء كان مجرد ارتداء ” الفوطة ” يعد قرينة لارتباط الشخص بالإضراب ومبرراٍ للاعتقال والتحقيق حيث كان معروفاٍ لسلطات الإمام أن التخطيط والدعوة للإضراب تمت بواسطة موظفي ” النقطة الرابعة ” ومعظمهم من الشباب القادمين من عدن وقد كان معظمهم يرتدون ” الفوط ” ويتمتعون بالوعي والثقافة وكانت الفوطة في ذلك الوقت من علامات التمدن وتأثر الكثير من شباب المدينة شباب النقطة الرابعة في أزيائهم وأفكارهم.
راديو البوفيه يعلن قيام الثورة
في صباح الـ26 من سبتمبر 1962م كان بيان الجيش يتكرر مراراٍ من راديو البوفيه معلنا سقوط النظام الملكي وقيام الجمهورية العربية اليمنية وكان أصحاب المحلات المجاورة والمارة في الشارع يشككون في ما يسمعونه ويعتقدون أن البيان ربما يكون مجرد حيلة لمعرفة ردود أفعال الناس ومواقفهم من النظام الملكي وكانوا يعتبروننا ” أصحاب البوفيه ” مغامرين ومتهورين.
ومع حلول منتصف النهار كانت شمس الثورة حقيقة ساطعة ابتدأت معها صفحة جديدة في تاريخ اليمن ونضال اليمنيين وغدا فجر 26 سبتمبر الذي كان الأخوان الإبي يقرآنه في فناجين الشاي والقهوة شارعاٍ يعج بالحياة وتسارع نمو المباني على جانبيه كنبات الفطر.
زالت هواجس الخوف والترقب وتنفس الناس الصعداء وشهدت المدينة حركة عمرانية نشطة في سنوات الثورة الأولى وتشكلت معها ملامح الشارع الذي يمر من أمام البوفيه واتخذ من يوم قيام الثورة اسما له وكأن لسان حاله يقول: الثورة مرت من هنا.
استأنفت مدرسة الأحمدية وظيفتها التعليمية وتحول اسمها إلى ” مدرسة الثورة ” فيما تحولت بوفية الإبي إلى نقطة جذب للنشطاء السياسيين والأمنيين على السواء وفي بعض الأيام كانت طاولاتها تجمع ألواناٍ مختلفة ومتباينة من السياسيين والشباب ذوي الثقافات والأفكار المتعددة وأحيانا كانت تنتهي تلك اللقاءات بملاسنات حادة أو اشتباكات بالأيدي أو اقتياد بعضهم إلى أقبية الأمن بتهم الحزبية والعمالة وغيرها حتى مالكي البوفيه ” الأخوين عبدالله ” لم يسلما من تلك التهم في بعض الفترات.
وقبل أن ينتهي لقائي بالوالد عبدالله الإبي سألته عن شعوره بعد 50 عاما على قيام الثورة وعما إذا كان راضياٍ عما تحقق له شخصياٍ ـ فالبوفيه التي افتتحت قبل حوالي 60 عاماٍ ومساحتها لا تتجاوز 25 مترا مربعا لا تزال تقليدية شعبية في بنائها ومتواضعة في أثاثها وخدماتها.. فأجابني معبراٍ عن الرضا والقناعة: الحمد لله استطعنا تربية الأولاد وتعليمهم.. وفي السنوات الأخيرة تمكنا من شراء المحل حيث كنا من قبل مجرد مستأجرين ولم نكن قادرين على تطوير البوفيه أو تجديد بنائها كما افتتحنا فرعاٍ جديداٍ ـ هذا الذي نجلس فيه ـ
الأحمدية والحجر الأسود
وكنت قد التقيت بابن أخيه ” النجل الأكبر لعبدالله الحشاش والذي أسندت إليه إدارة البوفيه الأم في شارع 26 سبتمبر ويبدو في العقد الخامس من عمره ” وقد حدثني بمرارة عن هدم المدرسة الأحمدية الذي تم في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ليقام مكانها المبنى الحالي ـ مدرسة الثورة الأساسية للبنات.
ويصف نجل الحشاش ـ الذي كان طالباٍ في المدرسة خلال الثمانينيات ـ كيف كانت الآليات الثقيلة تواجه صعوبة كبيرة في عملية الهدم الذي كان قراراٍ خاطئاٍ ـ ليس من وجهة نظره فحسب بل من وجهة نظر الكثيرين ممن التقيتهم في تعز.. يتحدث نجل الحشاش ” الإبي الصغير ” بإعجاب ودهشة عن قوة البناء وصلابة الأحجار وضخامة الأخشاب ” المقاومة للأرضة “..
بعثرت الأحجار والأخشاب في كل مكان ولكن الإبي لا يزال محتفظا بأهم أحجار المدرسة الأحمدية ـ الحجر الأحمر ـ وهو حجر عرضه نحو 80 سنتيمترا وارتفاعه 50 سنتيمترا محفور عليه الشعار الرسمي للمملكة المتوكلية اليمنية ـ سيف وخمس نجمات وكانت ترمز إلى أركان الإسلام الخمسة ـ وكان مثل هذا الحجر يزين عقود المداخل الرئيسية في جميع المباني الحكومية آنذاك.
نجل الحشاش يتحدث بإحباط عن تعامل مكتب الآثار في تعز حينما عرض عليهم نقل الحجر والاحتفاظ به ضمن مقتنياتهم فتقاعسوا عن المهمة وطلبوا منه أن يتولى بنفسه عملية نقل الحجر إلى المكتب ليستقر الحجر نهائيا في رصيف البوفيه.
وبينما نحن نتأمل صورة قديمة للمدرسة الأحمدية معلقة على حائط البوفيه إلى جانب صور أخرى قديمة لمعالم المدينة إذا بالفتى ” معاذ في الثالثة عشرة ” يسألنا باستغراب: يعني مدرسة الثورة عملوها بدلا عن هذه المدرسة ـ يقصد الأحمدية ـ ثم يواصل بنفس الدهشة والاستغراب: ورب الكعبة هذه أحسن.