شاركت في السنوات الأخيرة في أكثر من ملتقى نظم في المغرب وسوريا واليمن ومصر.. حول النص السردي القصير جدا. الكل يبشر بعصره.. والجميع ينظرون له.. بل وأكتشف أن الجميع أيضا يكتبونه.
فهل من يصرح بكتابة النص السردي القصير جدا بالفعل يكتبه.. وهل كل ما نقرأه على صفحات الصحف ومواقع الشبكة الإلكترونية .. وصفحات الفيس بوك قصة قصيرة جدا.
ما وددت قوله أن ما يكتب كثير.. ومن يدعي فهمه وإجادة كتابتها كثر.. لكن ما يدهش قلة.
لست رافضا ولا ممانعا أن يكتب سكان الكرة الأرضية .. بل سعيد لكل ما يدور من جدل حول فنون الكتابة وأكثر سعادة أن يكتب من أراد. فقط أن نكتب بوعي.. وأن نأتي بالجديد المدهش.
في المملكة المغربية كما في مصر .. كما سبقتهما سوريا.. حركة نشطة وفرسان ينحتون فنا جميلا ومتجددا في القصة.. والقصة القصيرة وجدا.. وأيضا الشذرة.
بين أيدينا مجموعة قصصية.. وصفت على غلافها قصص قصيرة جدا.. ثم تحت ذلك التوصيف “ومضات” للكاتب عبد الناصر العطيفي. وسمت بـ ” طعم الشاي” صادرة عن مؤسسة يسطرون ..القاهرة.
وقد ضمت بين غلافيها ثلاثين نصا سرديا قصيرا.. وصفت بالقصة القصيرة جدا.. وما يربو على المائة نص توزعت بين القصة القصيرة جدا” الومضة” وعدد من الشذرات. لم يتدرج في الفهرس.
يبدو أن هناك لبساٍ في توصيف تلك النصوص.. وعلينا أن نعرف بأن القصة القصيرة جدا والومضة هما توصيفان يعنيان نفس المعنى.. ونعلم أن أحد النقاد المغاربة قد رصد ما يزيد عن خمسين تعريفاٍ للقصة القصيرة جدا. بمافيها الومضة.. والأقصودة . والأفصوصة … إلخ . بمعنى أننا أمام جنس سردي لم يتفق على تسميته.. وكل يطلق عليه ما يراه .. بينما البعض يعتقد أن تلك التصنيفات تعني أكثر من جنس سردي.. وفي الحقيقة أن جميعها تعني ذلك النص السردي القصير الذي لا يتجاوز الخمسة أسطر .. وإن تراوح بين السطرين والثلاثة.
إذن ما صنف في هذا المجموعة على أنه قصة قصيرة جدا.. هي قصة قصيرة. لأن بعضها تجاوز الصفحتين وأكثرها صفحة.. كما أن بعض النصوص بها أكثر من شخصية.. وتحتوي على صراع وتنامي للأحداث وحوار.. أي أنها تحمل خصائص القصة القصيرة.
أما ما صنف بالومضات.. فليست جميعها ومضات. ولا اختلاف أن أطلقنا عليها قصة قصيرة جدا أو ومضة .. خاصة تلك التي تتكون من سطرين إلى خمسة أسطر. أما ما تتكون من سطر أو جملة.. فتصنف بالشذرة. والفرق واضح بين القصة القصيرة.. والقصيرة جدا “الومضة”.. كما أن الفرق واضح بين الشذرة والقصيرة جدا.. فالشذرة تتكون من جملة .. أو جملتين ولا تتجاوز السطر الواحد.. إضافة إلى أن الشخصية تتماها ويبرز الحدث معتمدة على وصف مختصر جدا.
بداية من نصوص القصة القصيرة في المجموعة . فالعطيفي. يقدم نصوصه على شكل مشاهد قصصية . معتمدا على لغة سلسة يجيدها.. إضافة إلى وصفه لأجواء حميمية تجذب القارئ وتدفعه للتعاطف مع شخصياتها. ولذلك سيلاحظ القارئ بأنه يقتطع أو يقتنص شخصية من الشخصيات المحيطة به ليقدمها في مشهد سردي مشوق. وهذه ميزته.. وأجزم بأنه يتفرد بها.
ففي “طعم الشاي” أستطاع أن يرينا الكاتب ملامح الرجل دون أن يتطرق إلى ذلك.. تلقائيته وهو يحمل براد الشاي على النار.. ثم وهو يسأل ضيفه عن جودة الشاي.
أمر آخر ذلك الوصف الذي يؤثث به جميع قصصه القصيرة.. وصف يقرب لنا الموصوف بشكل مباشر .. ويفيض علينا بشكل غير مباشر إلى البيئة المحيطة دون ذكر تفصيلها.. وذلك سحر وقدرة أخرى يمتلكها العطيفي. ولا يكتفي ليتجاوز في تقديم شخصياته بخصائص إنسانية عامة.. ونادرا ما بؤطرها بالمحلية.. فلو ترجمت إلى لغات غير العربية لوجدها القراء هناك تتحدث إن إنسانهم وهمومه.
“تراب الرصيف” نص آخر يقدم لنا مشهدا حياٍ .. وأظنني لو وقفت في أحد ميادين أو جلست على أحد مقاعد مقهى في القاهرة أو صنعاء أو الرياض أو البيضاء..أو أي مدينة عربية.. فأنني سأرى شخصيات هي شخصيات العطيفي.. بل وأشاهد أن كل من يسير أو يجلس أو يقوم بأي نشاط في تلك الميادين والشوارع.. هي إحدى شخصياته.. وما يقوم به العطيفي تسليط ضوء بصيرته على إحدى شخصيات تلك الأماكن.. مقتطعا حركة ذلك الشخص ومن يحتك أو يتعامل معه. ليقدم لنا نصا حيا وجميلا. كما هي جميع نصوصه القصصية. كمشاهد حية.بلغة جاذبة وبناء محكم.
وأسأل نفسي: هل يستطيع أي منا فعل ذلك¿ هاهي الميادين تعج بجماهيريها والمقاهي بروادها والشوارع والأسواق تكتظ ليل نهار.. هل نستطيع الخروج بنص كما هو في مجموعة طعم الشاي. إذا هي قدرات تختلف من كائن إلى آخر. وكذلك اختيار زاوية يرى الكاتب منها شخصياته ..ليقدمها للقارئ بأسلوب لا يستطيع استخدامه إلا هو.
“جاكت أخضر” أستطاع الكاتب أن يجعلنا نرى بعيون وقلب الزوجة التي تتابع على شاشة التلفاز تلك المظاهرات ..باحثة عن زوجها بخوف وقلب المحب.. بعد أن حاولت منعه النزول والمشاركة مع الجماهير الغاضبة.. حاملة في حجرها هم طفليها التوأم .
من يقرأ هذا النص لا يملك إلا أن يشارك تلك الزوجة خوفها.. بل ويتابع البحث وسط الجماهير عن جاكت أخضر.. يمثل لها الحياة والأمل. لكنه عنف العسكر دوما ما يحجب الأمل.. عصيهم غازاتهم رصاصهم. عبد الناصر يدفع بالقارئ إلى أن يكون شخصية مشاركة من شخصيات نصوصه.. ليس في هذا النص بل في جميع نصوص هذه المجموعة.
منحى آخر.. يدركه القارئ.. أن الكاتب ينسج لنا نصوصه بصدق فني.. ووجدان المحب لصنعته.. ففي نصي “خلاويص”و “لا شيء يستدعي الحزن” سيشعر القارئ بالحميمة تجاه رجل عجوز يشارك الأطفال لعبتهم.. بعد أن يوافق الأطفال على طلبه . ذلك العجوز ليس غريبا علينا..فاذا ما تلفتنا حولنا في محيطنا الأسري.. أو في الشارع أو الحي الذي نقطن فيه.. سنجد نفس الشخصية تسير وتعيش بيننا.
وكذلك سيشعر القارئ بقرب ذلك الرجل المكتئب من نفسه.. الرجل الذي عادة ما يجلس أمام باب بيته وقد تغيرت ملامحه على غير عادته.. لكنه يعود مع نهاية النص ليردد: لا شيء يستدعي الحزن. وهكذا يجد القارئ أن الكاتب يقدم له في حيز صغير .. صفحة أو أقل من الصفحة مقرباٍ لنا بكلمات قليلة نبض شخصياته وأمزجتهم وهمومهم.. وطبائعهم .حتى نكاد نجزم بأننا نعرف كل شخصية من تلك الشخصيات.. أو قد يكون كل منا هو إحداها.
ومن النصوص الواضحة.. نجد الكاتب يغير من أسلوبه من نص إلى آخر فمن تلك النصوص الواضحة إلى فهم القارئ.. والتي تفتح قلبها بكل محبة من أول سطر.. إلى نصوص يكتنفها الغموض والتي تتطلب أكثر من قراءة .. للبحث بين أسطرها عما تريد قوله .. وكذلك كشف الإيحاءات والدلائل والرمز.. كما في نصوص: الكارت المحروق.. صورة.. احتدام.. وغيرها من النصوص القصيرة التي لا تختلف عن بقية النصوص في المشهدية وتقديم الشخصيات ووصف بيئة المكان.. عدى الاتكاء على الرمزية ما يدعو القارئ للتأمل والعودة لقراءة النص أكثر من مرة لاكتشافه.
إذا ما نود قوله أن الكاتب يقدم لنا نصوصا تختلف في أسلوب تقديم مضامينها ..وإن توحدت في مشهديتها ونبض الحياة فيها.. دافعا بالقارئ بمعايشتها والاندماج مع هموم وتطلعات شخصياتها.. لكي يكتشف نفسه ويتعرف إلى واقعه وما يحيط به.
وننتقل إلى الجزء الثاني من المجموعة.. وهو ما لم يتضمنه فهرسه المجموعة.. والذي جاء تحت توصيف ومضات.
وسبق أن ذكرنا أن هذه النصوص تتوزع بين القصة القصيرة جدا “الومضة” والشذرة .. ويمكننا أن نميز بين نصوص الشذرة كما ذكرنا سابقا بأن الشذرة أكثر تكثيفاٍ.. ولا تتجاوز السطر الواحد في العادة.. كما أنها تتكون من جملة أو جملتين. وسأكتفي باختيار بعض النصوص كأمثلة.. ولن أعلق عليها .. مكتفيا بدهشة اعترتني عند قراءتي لها.. وفي تصوري أن الإبداع الحق هو ما يثير الدهشة لدى القارئ . وأترك للقارئ أن يتذوقه ذلك القدر من الجمال الذي أبدعه عبد الناصر .. فتلك النصوص مع روعة صياغتها وما تحمل من مضامين.
نصوص الشذرة:
ومضتي: ومضت ومضتي , فأنارت جنبات الفيس.
الصبار:غرسوا أحلامه في ميدان التحرير,فنبت الصبار وترعرع.
متظاهر: تظاهر بأنه متظاهر فاعتقلوه.
احتضان: ارتمى في حضن الأسى,كي يفرح.
انفراد:في محبسه الإنفرادي..انفرد بذاته..فقضى أجمل أيام عمره.
بهلوان:أكل كل الموائد,ففاحت رائحته.
بكاء:جاء العيد, يبحث عنا,فتش الدروب, لم يعثر علينا, ذرف دمعه ثم ولى مدبرا.
تلك بعض الشذرات.. بالفعل تثير الدهشة.. وتوحي بكاتب مقتدر.. فتلك النصوص من التكثيف لا تقبل حذف كلمة إو إضافاتها.. بل على مستوى الحرف إن حذف أو أضيف يختل المعنى.. وتلك المضامين والرموز.. وما تحمله من إيحاء. نصوص لا يمكن أن يكتبها إلا صاحب موهبة حقيقية.
وسأكتفي بإيراد نص من نصوص القصة القصيرة جدا”الومضة”
نص بعنوان وداع: من صفحة الفيس أعلن رحيله ..جاءته كتائب المودعين.. اصطفت يعتصرها الأسى. ولما رحل بالفعل, ظل جثمانه قابعا في ركن الدار في انتظار المشيعين.
هي تحية لمبدع استفزتني نصوصه بعد إدهاشي.. لأجالسها رغم صخب ما يدور حولي من أصوات قذائف المتحاربين.. وروائح الموت.. فقد كان نديمي.. فشكرا أخي عبدالناصر .. وفي شوق لجديدك أيها المبدع القدير.