هكذا يتململ رمضان هذا العام منصرفا والمجتمع اليمني يعيش فزع الصواريخ والقنابل “الغبية” التي تطال اليمن منذ ما يقرب الأربعة الأشهر وفي صنعاء تودع الذاكرة الإيمانية ضيف الأمة الإسلامية على قرع دفوف الحرب ووريص الإسعافات وتداعيات الدمار ولم يحظ هذا الضيف ببصيص أمل من أجراس مواقيت الفرح الإيماني وحكاياته المرتبطة بروحانية وصوفية صنعاء في وقت الإمساك عن الطعام ووقت الإفطار.. إنها مواقيت رمضان التي كانت هامة جبل نقم الشماء تعلنها وتزفها قبل كل لحظة التهام أول حبة تمر في يوم رمضاني قائظ وبعد آخر رشفة ماء في فم ممسك نوى الصوم على جرس مدفع نقم الذي أصبح جزءاٍ من ذاكرة المجتمع اليمني المسلم منذ أطلق في أوج أيام الدولة العثمانية.
جبل نقم هذا العام لم يبعث لمسامع أكثر من 3 ملايين نسمة يقطنون صنعاء صدى انفجار مدفعه في فجر ومغرب كل يوم رمضاني بل صار مصدرا من مصادر الفزع ووضع الكفوف على القلوب حين تطاله صواريخ كروز وقنابل أمريكا الذكية وهي تدك كل شبر من هذا الجبل الصامد كغيره من الجبال التي تحيط العاصمة صنعاء..
يقول الحاج علي الحيمي من سكان صنعاء القديمة منذ ما يقرب الأربعين عاما كنا نفطر على وقع انفجار (مدفع رمضان) من أعلا جبل نقم ولو مرة منذ ذلك الزمن أصبحنا لأول مرة نقبض على قلوبنا مع كل صلاة من الخمس الصلوات حيث تحلق الطائرات المعادية لتقصف صنعاء بأحدث أنواع الأسلحة..
لقد – والحديث للحاج أحمد- غِيبِ العدوان مدفع رمضان هذا العام وغيب السكينة والأمان من قلوب اليمنيين وقتل الفرحة الرمضانية في قلوب آلاف الأطفال الذين اعتادوا انتظار صوت مدفع رمضان من نقم في حواري صنعاء وعلى سطوح منازلها الشاهقة..
روايات مدفع رمضان في جبل نقم الشامخ والمطل على صنعاء مختلفة لكنها وإن اختلفت إلا أنها تؤكد أنه منذ إطلاقه في العهد العثماني بات الموقت الوحيد للإفطار والإمساك عن الصوم في مدينة صنعاء وضواحيها إذا تؤكد المصادر أن أشهر مدفع في اليمن هو مدفع الإفطار في صنعاء والواقع في جبل نْقـم الذي يرتفع عن سطح البحر بنحو(3000) متر على سطح البحر ويساعد ارتفاع الجبل المطل على اتساعات صنعاء وضواحيها في إيصال صدى صوت المدفع إلى أكبر قدر من الناس ويصل مدى صداه العالي إلى 20 كيلو متر مربع أو أكثر .
فحسب الحاج علي الريسي (80) عاماٍ يعد انفجار هذا المارد توقيتاٍ متعارفاٍ عليه مع كل إفطار وإمساك منذ خمسين عاماٍ وهو عمر سكنه في صنعاء إلا من بعض السنوات التي ارتبطت بالحروب التي شهدتها صنعاء بعد الثورة السبتمبرية.. ويسترجع الريسي وهو يتحدث مبتسماٍ عن مدفع رمضان في نقم أنصع أيام وذكريات الشهر الرمضاني الفضيل في أيام السلام التي كانت صنعاء فيها أجمل حاضرة إسلامية مؤكداٍ أنه زار القاهرة ودمشق وإسطنبول والرياض وبيروت وغيرها لكن أجواء صنعاء القديمة الرمضانية ذت طعم خاص وبهجة خاصة..
وقال الريسي: حكى لنا كثير من أهالي صنعاء من كبار السن تلك العادة التي اشتهرت وانتشرت في أوج أيام الدولة العثمانية واستمر في نقم في عهد الإمامة و ما قبل الثورة اليمنية غير أن هذه العادة توقفت بعد الثورة اليمنية ولأسباب عديدة منها استخدام القذائف الحية وما تخلفه من أضرار واستطالة فترة الحرب الجمهورية الملكية التي شهدتها صنعاء وصولاٍ لحصار السبعين ناهيك عن دخول البدائل لتلك العادة كالساعات الدقيقة في الوقت.. ولكن لم يستمر الإلغاء والتوقف كثيرا نظرا لارتباطه بذاكرة الناس حيث كان الكل يسأل عليه في رمضان فتم استبدال القذائف الحية بالقذائف الصوتية.. وقبل هذه الفترة الزمنية كان يتم إطلاق المدفع مساء يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان, إذا ثبتت رؤية هلال شهر رمضان, وإلا عصر الثلاثين منه , وكانت تطلق 21 طلقة حسب ما يذكرها البعض..
وفي نفس الوصف يوافق الروايات السابقة حديث الحاج حسن مجلي مؤكدا أن أجواء صنعاء الرمضانية تختلف وتتميز عن سائر المدن اليمنية والعربية وأنه سكن صنعاء منذ ستينيات القرن الماضي ولم تنقطع عادة مدفع رمضان إلا في أوقات الحروب والظروف الأمنية..
وقل مجلي إن مدفع رمضان في نقم أقدم مدفع رمضاني في اليمن وهو يذكرني بحكاية مدفع رمضان في عدن الذي جاء متأخراٍ بعد مدفع رمضان في نقم صنعاء حيث سمعت وأنا في عدن في أوائل الستينيات أن للمدفع الرمضاني في عدن الذي بدأ أيام الاستعمار البريطاني قصة طويلةـ إذ بدأت هذه العادة بمحض الصدفة حيث كان أحد الجند اليمنيين التابعين لسلطات الاستعمار ينظف المدفع بعد غروب الشمس وقت الإفطار وفجأة انفجر المدفع دون قصد وحين حققت السلطات البريطانية مع الجندي تحجج بأنه عن طريق الخطأ مؤكدا لهم أن وقت الانفجار لن يثير فزع الناس في عدن لعلمهم أن المعتاد في المدن الإسلامية تطلق المدافع مع كل إفطار ومع كل إمساك عن الطعام فأقرت السلطات البريطانية في عدن هذه العادة تماشياٍ مع معتقد اليمنيين ودينهم الإسلامي..
وعلى ذكر قصة مدفع رمضان بعدن تورد المصادر التاريخية عن مدفع رمضان في الدول الإسلامية عدة روايات الأولى تقول إن والي مصر في العصر الإخشيدي خو شقدم كان يجرب مدفعاٍ جديداٍ وتصادف ذلك وقت غروب الشمس في أول يوم من رمضان عام 865 هـ. فظن الناس أنه ينبههم لحلول موعد الإفطار وشكروه على ذلك فأعجب الوالي بالفكرة مصدراٍ أوامره بإطلاق مدفع الإفطار يومياٍ وقت أذان المغرب. فكانت القاهرة المدينة الأولى التي تطلق مدفع رمضان.
وتقول الرواية الثانية إنه أثناء تجربة قائد جيش والي مصر محمد علي باشا (1805-1848م) لأحد المدافع المستوردة من ألمانيا انطلقت قذيفة المدفع مصادفة وقت أذان المغرب في شهر رمضان وكان ذلك سبباٍ في إسعاد الناس الذين اعتبروا ذلك أحد المظاهر المهمة للاحتفاء والاحتفال بهذا الشهر المبارك فاستخدم المدفع في التنبيه لوقتي الإفطار والسحور بينما تؤكد رواية ثالثة أن هذه الحادثة حصلت في عهد الخديوي إسماعيل فأصدرت الحاجة فاطمة ابنة الخديوي فرماناٍ يقضي باستخدام المدفع للتنبيه وقت الإفطار والسحور وفي الأعياد الرسمية فارتبط مدفع رمضان باسمها..
وفي منتصف القرن التاسع عشر وتحديداٍ في عهد الخديوي عباس الأول عام 1853م كان يطلق مدفعان للإفطار في القاهرة: الأول من القلعة والثاني من سراي “عباس باشا الأول” بالعباسية- ضاحية من ضواحي القاهرة- وفي عهد الخديوي “إسماعيل” تم التفكير في وضع المدفع في مكان مرتفع حتى يصل صوته لأكبر مساحة من القاهرة واستقر في جبل المقطم حيث كان يحتفل قبل بداية شهر رمضان بخروجه من القلعة محمولاٍ..
وبدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولاٍ لا سيما في القدس ودمشق ومدن الشام الأخرى ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر وبعدها انتقل تقليد مدفع رمضان إلى مدينة الكويت في عام 1907 ثم انتقل إلى كافة أقطار الخليج واليمن وحتى دول غرب أفريقيا مثل تشاد والنيجر ومالي ودول شرق آسيا حيث بدأ مدفع الإفطار عمله في اندونيسيا عام 1944م .