في قلب العالم، حيث تتجاور قاعات القرار الزجاجية مع حقول الدم، يقف مجلس الأمن الدولي، ليس كرمز للعدالة الكونية، بل كصورة رمزية للعمى الإرادي. إنها مفارقة حضارية قاسية: أن تُناط مهمة حفظ السلام الدولي بهيئة أصبحت هي نفسها التجسيد الأكثر فجاجة لازدواجية المعايير والكيل بمكيالين.
عين المصلحة
الرمز الفلسفي للميزان يتطلب التوازن، لكن الميزان الذي يملكه مجلس الأمن أُصيب بـ”العور”، يرى بعين واحدة فقط هي عين المصلحة والامتياز السياسي.عندما يتعلق الأمر بـ”القوى العظمى” أو وكلائها، يُصبح القانون الدولي مجرد حبر سائل يتبخر في الهواء. في المقابل، عندما تكون الجريمة صادرة عن الأطراف الأضعف أو تلك التي لا تحظى بالدعم الاستراتيجي، يتحوّل الحبر إلى قيود حديدية وأحكام لا هوادة فيها.
العقوبة على الضمير
هنا تبرز الدلالة الأكثر قسوة للميزان الأعور، فبينما يجد مجلس الأمن صعوبة هائلة في إصدار قرار واحد لوقف المذابح في غزة، نراه يُسارع في تجديد وتوسيع دائرة العقوبات والحصار المفروض على اليمن. هذا القرار، الذي يُغلف بعبارات “تحقيق الاستقرار” و”منع تهريب الأسلحة”، يصبح في جوهره عقوبة موجهة للضمير.
لقد تحوّل الموقف اليمني، الداعم والمناصر لقضية فلسطين العادلة والمظلومية التي يتعرض لها أبناؤها، إلى ذنب يستحق التقييد والعزل الدولي. إن حجة التمديد والتضييق تصبح هشة وفارغة من أي معنى واقعي، ولا تُفسر إلا كرسالة واضحة: مقاومة الطغيان وكسر الصمت جريمة لا تُغتفر في قاموس “الشرعية الدولية”. هذا الغضُّ المتعمد للطرف عن الجرائم الكبرى في مكان، مقابل تشديد الخناق على من يرفع صوته ضدها في مكان آخر، يكشف أن القاعة الزجاجية لم تعد تحكمها مبادئ، بل تُديرها “سيكولوجيا التواطؤ” التي ترى في الوقوف مع المظلوم تهديداً يجب إخماده.
العُمق الرمزي لـ “قاعة الزجاج”
الزجاج الذي من المفترض أن يرمز للشفافية والرؤية الواضحة، أصبح قناعًا خادعًا. الأعضاء الدائمون يجلسون خلف هذا الزجاج، يرون ويُشاهدون جرائم القتل والطغيان والإرهاب الممارس على الأرض، لكنهم يختارون عزل أنفسهم بـحاجز الصوت السياسي. الزجاج هنا لا ينقل الحقيقة؛ بل يعكسها مشوّهة ومُشوّشة، بحيث يُصبح القاتل ضحية، والاحتلال “دفاعًا عن النفس”.
الرمز الأقوى هو الفيتو، تلك الأداة التي مُنحت لتكون صمام أمان ضد التهور، لكنها تحوّلت إلى فأس تُهدم به كل جسور العدالة. الفيتو يمنح دولة واحدة القدرة على تجميد الضمير العالمي، ليُصبح اعترافًا صارخًا بأن المبدأ فوق المبدأ، وأن الإرادة القوية تخضع لها كل القوانين.
إن أخطر ما ينتجه هذا التواطؤ هو إعادة تعريف الإجرام. عندما تُمَارَس أعمال القتل والتطهير والطغيان، وتظل القوة الضاربة في العالم صامتة، أو الأسوأ من ذلك، مُدافعة ومبررة، فإنها تُرسّخ مفهوم أن هناك إرهابًا “شرعيًا” مُغطّى بمظلة الحماية الدولية.
في الختام، يُصبح مجلس الأمن الدولي في سياق الكيل بمكيالين، مرآة لمرحلة من العدمية الأخلاقية العالمية. إنه ليس فشلًا في التنفيذ، بل فشل في الإيمان بقيمة الإنسان فوق قيمة النفوذ. وإلى أن يكسر العالم هذا الزجاج ويُعيد للميزان عينه الثانية، سيظل الصمت في قاعة القرار هو الصوت الأعلى والأكثر دلالة على موت الضمير الجمعي.
