أمريكا تفقد السيطرة واليمن يرسم المعادلة الجديدة

عبد الخالق دعبوش

 

في مقالة نشرها الباحث الأمريكي جيمس هولمز في مجلة The National Interest بتاريخ 13 أكتوبر 2025م تحت عنوان “بعد مرور 250 عامًا، تحتاج البحرية الأمريكية إلى إعادة تعلم عظيمة”,

يقر أحد أبرز خبراء الاستراتيجية البحرية في واشنطن بأن الولايات المتحدة فقدت مهاراتها التاريخية في الحرب البحرية، وأنها تعيش اليوم مرحلة “إعادة تعلم” مؤلمة تشبه تلك التي عاشها الهيبيون في ستينيات القرن الماضي عندما نسوا أبسط قواعد النظافة واضطروا لتعلمها من جديد بعد فوات الأوان.

المقال يقدم اعترافًا نادرًا بأن البحرية الأمريكية، بعد ثلاثة عقود من الاطمئنان والغرور منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، تكتشف اليوم أنها لم تعد تملك السيطرة المطلقة على البحر، بل تجد نفسها مضطرة للقتال كقوة أضعف أمام خصوم يملكون الإرادة والقدرة على التحدي.

حين أعلنت القيادة الأمريكية في وثيقة From the Sea” “عام 1992م أن عصر الحروب البحرية انتهى، كانت تفترض أن السيطرة الأمريكية على المحيطات باتت أبدية لكن ما حدث بعد ثلاثة عقود أثبت أن التاريخ لم ينتهِ، بل عاد بقوة – لكن بوجهٍ يمني هذه المرة.

في البحر الأحمر والبحر العربي واجهت واشنطن للمرة الأولى في تاريخها الحديث خصمًا غير تقليدي، لا يمتلك أسطولًا ضخمًا ولا قواعد عالمية، لكنه يمتلك معادلة الردع والإرادة.

اليمن، بقدرات محلية الصنع وبقيادة عسكرية عقائدية، حول البحر من ساحة أمريكية إلى منطقة محرمة على السفن الحليفة للعدو الصهيوني.

العمليات اليمنية في البحر الأحمر كشفت جوهر الأزمة الأمريكية التي تحدث عنها هولمز.

إن من ينسى أساسيات القتال البحري سيتعلمها بالطريقة الصعبة — وهذا ما حدث بالفعل.

ففي كل عملية يمنية ضد السفن المعادية، كانت البحرية الأمريكية تفاجأ بتكتيك غير تقليدي وبقدرات صاروخية وطائرات مسيّرة تتجاوز نطاق الدفاعات الأمريكية.

أصيبت المدمرات الأمريكية بحالة إرباك تكتيكي ومعنوي، حيث لم تتمكن من منع الضربات ولم تستطع حماية السفن التجارية، واضطرت واشنطن إلى تحويل مسارات الملاحة والاعتراف الضمني بفشلها.

الغماري… تجسيد “العقل العملياتي” اليمني

وهنا تبرز شخصية الشهيد الغماري كأحد الرموز التي جسدت هذا التحول الاستراتيجي في الميدان اليمني.

فالرجل لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان عقلًا عملياتيًا فذًّا ساهم في ترسيخ ثقافة التخطيط الذكي والمبادرة الفاعلة.

ينتمي إلى مدرسة لا تؤمن بالتنظير بقدر ما تصنع الواقع في الميدان، مدرسة السرعة والوعي والإقدام،

حيث كان الغماري يعمل بسرعة تفوق الفرط الصوتي، بل بسرعة ستة عشر ماخ من الإصرار والإيمان.

لقد مثّل الغماري نموذج القائد الميداني المفكر الذي جمع بين الجرأة والانضباط، بين العقيدة والتكتيك،

وكان جزءًا من العقل الجماعي الذي نقل اليمن من موقع الدفاع إلى موقع التأثير والردع.

وما نراه اليوم في البحر الأحمر ليس إلا امتدادًا لذلك الفكر العملياتي المقاوم الذي أسسه رجال أمثال الغماري،

حيث تتحول المعركة من صراع أدوات إلى صراع وعي وإرادة، ومن رد فعل إلى هندسة استراتيجية تصنع الموازين.

اليمن كمدرسة جديدة في “منع البحر”

أشار هولمز إلى أن على أمريكا أن “تتعلم كيف تكون القوة الأضعف” وأن تتقن “استراتيجية منع البحر” بدل “السيطرة عليه”.

لكن المفارقة أن هذا ما أتقنه اليمن عمليًا دون الحاجة إلى أساطيل ضخمة.

فبينما كانت أمريكا تنفق مئات المليارات على حاملات الطائرات، كان اليمن يطور معادلة ردع بحرية متكاملة تقوم على التحكم الجغرافي بمضيق باب المندب وخليج عدن،

والاعتماد على التقنيات الصاروخية والطائرات المسيرة الدقيقة،

والقيادة الميدانية المرنة القادرة على توظيف الجغرافيا في خدمة المعركة،

إضافة إلى التحالف المعنوي مع محور المقاومة الذي منح بعدًا استراتيجيًا إقليميًا للمعركة البحرية.

بهذا النموذج أصبح البحر الأحمر ميدان اختبار عالمي، وأثبت أن منع البحر ممكن حتى بأدوات محلية إذا توفرت الإرادة والعقيدة.

من البحر الأحمر تبدأ نهاية الغرور الأمريكي

المقال الأمريكي لم يكن مجرد تحليل نظري، بل اعتراف ضمني بأن واشنطن اليوم تخسر معركة البحر.

ما يجري في البحر الأحمر هو تطبيق حي لما يسميه هولمز “الثمن الباهظ لنسيان القواعد الأساسية”.

فالولايات المتحدة التي اعتادت أن تحكم المحيطات تجد نفسها اليوم تتعلم من اليمن كيف تدافع عن نفسها، وكيف تحسب خطواتها داخل بحر كان يومًا بحيرة أمريكية.

لقد فرض اليمن معادلة جديدة، قوامها السيادة والردع والإرادة، وجوهرها القتال دفاعًا عن المبدأ لا المصالح.

ومن بين رجاله الذين صنعوا هذا التحول، يبرز الشهيد الغماري كرمزٍ للعقل المقاوم الذي لا يهدأ، وللقائد الذي يسبق الزمن بخطوات من نور وإيمان.

من البحر الأحمر تبدأ نهاية الغرور الأمريكي،

ومن مدرسة الغماري تتخرج معادلات الردع الجديدة.

قد يعجبك ايضا