تلك الخطابات والتصريحات السياسية الرسمية وغير الرسمية، التي تملأ سماء العرب، والتي يتصف بعضها بالسطحية المفرطة أو بالانحياز المبطّن لخطاب الأعداء، متى سيدرك قائلوها إنها خليط من التناقضات، إما مع القيم السياسية الأساسية، أو مع الواقع المتغير، أو مع الآمال الشعبية الصادقة الممنوع البوح بها؟
أليس تصريح أحدهم بأن الدولة الفلسطينية المستقبلية ستكون منزوعة السلاح، يتناقض كلياً مع التعريف الحديث لمعنى كلمة الدولة، الذي يشمل في ما يشمل مسؤولية سلطات حكم الدولة عن أمنها، أرضاً وشعباً ومؤسسات مجتمعية بكل أنواعها؟ ألا تشمل كلمة الحماية عادة متطلبات وجود جيش وأسلحة وقوى أمنية متعددة؟
ماذا سيفعل أي رئيس للدولة الفلسطينية لو أن الأعداء، بمن فيهم عدو تاريخي يريد أن يمحو شعبه الفلسطيني من الوجود، قرروا معاودة الاستيلاء على أرض دولته الجديدة، أو معاقبتها على فعل، أو موقف أو قانون أو تطوير تكنولوجي جديد لا ترضاه سلطات الكيان الصهيوني أو القيادة الأمريكية المتصهينة؟ هل سيقف في وجههم بدولته منزوعة السلاح؟ ثم هل سيسأل رئيس الدولة شعبه بصورة شفافة وغير مزورة إن كان يقبل، بعد ثمانين سنة من الانتظار، بدويلة كسيحة منزوعة السلاح؟ وهل إن عشرات الألوف من الأطفال والنساء والشيوخ والأبطال المقاومين ضحوا وماتوا من أجل دويلة كهذه بلا جناح أو أسنان؟
التناقض نفسه ينطبق على قصائد المديح التي تلقى في مدح الرئيس الأمريكي ترامب وترفع قدره سياسياً وإنسانياً وأخلاقياً. هل إن إيقاف مذبحة غزة الآن وبعد تفرجٍ لا أخلاقي طيلة سنتين من قبل الرئيس الأمريكي وحكوماته، صاحبه اتخاذ عشرات القرارات من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتمويل وتسليح الجيش الصهيوني من أجل أن يكمل حرب الإبادة الهولوكوستية في غزة، ويحيل أرضها إلى خراب ويباب، وهل بعد منع مجلس الأمن المرة تلو المرة، من أخذ قرار بإيقاف تلك المذبحة باستعمال الفيتو الأمريكي ضد كل أعضاء المجلس الباقين؟… هل بعد كل تلك المساهمة الترامبية المادية والمعنوية في عملية الإبادة والتدمير، يجوز أن تمدح جهوده المتأخرة الغامضة في إيقاف الحرب؟ هل حقاً أن القيم الربانية والإنسانية الأخلاقية، تسمح لأي مجرم قاتل بأن يقتل ويساهم في تجييش القتلة، حتى إذا ما قرر القاتل أن يتوقف عن مزيد من القتل، يصبح بطلاً وإنساناً رائعاً يستحق أن يهنأ على توقفه المؤقت عن القتل؟ ألا يرى المدّاحون والرّاكضون وراء القاتل لتهنئته وإعطائه فرصة ممارسة المزيد من الكذب والادعاءات بأنهم أمام موقف يعج بالتناقضات القيمية الأخلاقية والدينية والحقوقية والسياسية؟
التناقضات نفسها يجدها الإنسان في خطابات وتعليقات العديد من المسؤولين العرب عندما يؤكدون بابتسامات عريضة، أن التوقيع في شرم الشيخ على اتفاق إنهاء حرب الإبادة في غزة، سيؤدي إلى تفاهمات ومزيد من الاعترافات الجديدة المسالمة من قبل دول عربية وإسلامية، يعقبها كما يأملون وصول منطقة الشرق الأوسط إلى سلام ورخاء، ألا تتناقض تلك الآمال التبسيطية مع ما قاله ويقوله القادة الصهاينة، في الماضي وإبان السنتين الماضيتين على الأخص، من رفضهم التام لقيام دولة فلسطينية، وعزمهم على ضم الضفة الغربية وغزة وأجزاء من لبنان وسوريا والأردن والعراق والسعودية إلى كيانهم الاستيطاني التوسعي، من أجل تحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”؟ وجعل المسجد الأقصى موئلاً دينياً مشتركاً ما بين المسلمين واليهود في مدينة القدس التي ستصبح عاصمة أبدية للكيان الصهيوني وحده، ولا غيره على الإطلاق؟ ثم، ألا يجد المتبنون، بجهل أو بساطة طفولية وأحلام يقظة، شعار الإبراهيمية الموحدة للديانات السماوية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، والذي نشره، وما زال ينشره صهر ترامب الصهيوني كوشنير في كل أرجاء أرض العرب؟… ألا يجدونه شعاراً يجمع التناقضات الدينية المتلاعب بها لأهداف سياسية بحتة من أجل خدمة الكيان الصهيوني؟ وإلا فما الذي يجمع دين الحق والرحمة والقسط والميزان، دين الإسلام، ودين المحبة والتسامح، دين المسيحية، مع دين يدعي أصحابه بأن إلاههم قد أمرهم بأنهم إذا فتحوا مدينة أو بلداً، أن يقتلوا كل من فيها، رجالاً ونساءً وأطفالاً وحتى الأجنة الذين لم يولودوا بعد، وما زالوا في أرحام أمهاتهم؟ وماذا عما يردده النشيد الصهيوني يومياً والقائل: “ليرتعد من هو عدو لنا، ليرتعد كل سكان مصر وكنعان وبابل، ليخيم على سمائهم الذعر والرعب منا، حين نغرس رماحنا في صدورهم … ونرى دماءهم تراق، ورؤسهم مقطوعة، وعندئذ نكون شعب الله المختار حيث أراد الله!”؟
يا شباب وشابات الأمة انتبهوا لمثل هذه التناقضات التي يراد منكم أن تعيشوا معها وتقبلوها وتمجدوها.
*كاتب بحريني