أدرك قادة الحركة الصهيونية منذ وقتٍ مبكر استحالة إقناع المسلمين بالمشروع الصهيوني، لأنه ببساطة يتعارض مع مصالحهم وهويتهم الحضارية. لذلك لم يخاطبوا وعيهم الجمعي مباشرة، بل تسللوا إلى اللاوعي الجمعي لهم، مستهدفين توجيه طاقاتهم وعداواتهم نحو الداخل، لتُوظَّيفهم من حيث لا يشعرون لخدمة المشروع الصهيوني نفسه.
كان فرويد أول من ميّز بين مستويين في وعي الإنسان: الوعي الذي تحكمه قواعد العقل والمنطق والمعرفة، واللاوعي الذي تتحكم فيه الرغبات والأحقاد والذكريات الأليمة. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن ظاهرة التصهين اللاشعوري ليست سوى انعكاس لحالة اللاوعي لدى الإنسان المسلم، نتيجة عملٍ صهيوني منظّم استمر لعقود طويلة، استهدف إعادة تشكيل البنية النفسية والثقافية للمجتمعات الإسلامية لتوظيفها لمصلحتهم.
لقد تنبأ المفكر الراحل عبدالوهاب المسيري بظاهرة التصهين اللاشعوري لدى المسلمين قبل أكثر من ربع قرن، وأطلق عليها مسمّى “التصهين الوظيفي”. وقد عبّر عنها بقوله: “سيأتي يوم يظهر فيه يهود ليسوا يهوداً في الحقيقة، بل مسلمين يؤدّون الدور نفسه الذي يؤديه اليهود الصهاينة، سيمثلون إسرائيل خير تمثيل، وسيظهر اليهودي الجديد الذي أسميه اليهودي الوظيفي، يصلي معنا العشاء، لكنه يقوم بالوظيفة ذاتها التي يقوم بها الجنرال الإسرائيلي أو التاجر الصهيوني.”
بهذا التوصيف العميق، وضع المسيري يده على أحد أخطر مظاهر الاختراق الصهيوني، وهو تحويل بعض أبناء الأمة إلى أدوات تؤدي الوظيفة الصهيونية دون أن تدرك أنها تفعل ذلك، تمامًا كما وصف فرويد سيطرة اللاوعي على سلوك الإنسان.
وبالتالي، فإن التحدي الحقيقي الذي تواجهه الأمة اليوم لا يكمن في قوة العدو الصهيوني ذاته، بل في انتشار ظاهرة التصهين اللاشعوري بين أتباع الجماعات الإسلامية، الذين تحوّل نشاطهم “عبر العقود الماضية” إلى خدمة المشروع الصهيوني عسكريًا وإعلاميًا وماليًا، تحت ذريعة مواجهة النفوذ الإيراني.
لقد نجحت الولايات المتحدة في حرف بوصلة العداء داخل الوعي الإسلامي من مواجهة العدو الخارجي إلى التناحر الداخلي، حتى باتت بعض هذه الجماعات تُعيد إنتاج الأجندة الصهيونية من حيث لا تشعر. ويمكن رصد هذه الظاهرة بوضوح من خلال تحليل مواقفها وسلوكها تجاه مختلف الأحداث الإقليمية والدولية.
في بدايات الأزمة السورية، شكّلت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا واسعًا بهدف إسقاط النظام السوري تحت لافتة “دعم الثورة”. وفي المقابل، عندما ردّت حركة حماس على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ضد الشعب الفلسطيني، أثار ذلك استياء العديد من الجماعات الإسلامية التي سارعت إلى مهاجمتها بحجة “عدم شق صف التحالف الدولي ضد محور المقاومة”.
وبلغت تلك الحملة ذروتها حين خرج عدد من رموز هذه الجماعات، ومن بينهم الشيخ يوسف القرضاوي، لانتقاد حماس علنًا واعتبار ما قامت به “خيانة للثورة السورية”، في مشهدٍ يجسد بوضوح حالة التصهين اللاشعوري التي نجحت في حرف بوصلة العداء من العدو الحقيقي إلى الداخل المقاوم.
في المقابل، لم تُبدِ تلك الجماعات أي حرص على وحدة الصف الإسلامي خلال جرائم الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في غزة، بل استغلت انشغال محور المقاومة بالدفاع عن غزة لتكثيف جهودها في إسقاط النظام السوري، بالشراكة العملية مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
والأسوأ من ذلك أنها أشادت بدهاء زعيم “جبهة النصرة” أبي محمد الجولاني في اختياره “التوقيت المناسب” لتحركاته، وكأنها تكافئ من يطعن ظهر المقاومة وهي تخوض معركتها الوجودية مع العدو الصهيوني.
ومع سريان اتفاق خفض التصعيد في سوريا، بادرت حركة حماس إلى استعادة علاقاتها مع دول محور المقاومة، وفي مقدمتها سوريا، في خطوةٍ هدفت إلى رأب الصدع وتوحيد الجبهة في مواجهة العدو الصهيوني. غير أن هذه الخطوة أثارت غضب رموز الجماعات الإسلامية، الذين تسابقوا إلى إدانتها واتهام حماس بـ”خيانة دماء الثوار السوريين”، محذّرين إياها من خسارة رصيدها في أوساط السنّة.
المفارقة أن هؤلاء أنفسهم لم يوجّهوا أي نقد لتصالح أبي محمد الجولاني مع إسرائيل وانبطاحه أمامها، بل تسابقوا إلى تأييد تلك الخطوة وتبريرها بوصفها دليلاً على “واقعيته السياسية” و”حنكته في إدارة الصراع”، في نموذجٍ فاضح لما يمكن تسميته بـ التصهين الوظيفي الذي نبّه إليه عبدالوهاب المسيري قبل عقود.
لذلك نلاحظ أن أتباع الجماعات الإسلامية قد فقدوا إحساسهم بالواقع إلى حد انهم يؤمنون بالشيء ونقيضه في آنٍ واحد. وقد استغلت الولايات المتحدة هذا الاضطراب الفكري والنفسي لتوظيفهم في خدمة مصالحها، وتوجيه طاقاتهم نحو ما يخدم مشروعها في مختلف الميادين والاتجاهات.
فعلى سبيل المثال، تراهم يعتقدون أننا نتبع إيران وأنها تستخدمنا لتصفية حساباتها مع أمريكا، وفي الوقت نفسه يزعمون أن أمريكا تدعمنا!
يصفون مواجهتنا مع الولايات المتحدة بأنها “مسرحية”، ثم يعودون ليقولوا إننا نغامر بمصالح اليمن بدخول حربٍ غير متكافئة ضدها!
يشنّون حملات تخوينٍ ضد السيسي وبن سلمان وبن زايد باعتبار “الخيانة عارًا”، لكنهم في المقابل يدافعون عن خيانة الجولاني وأردوغان بحجة أنها “دهاء سياسي” و”واقعية في إدارة الصراع”!
هذه التناقضات لا تعبّر عن تعدد في وجهات النظر، بل عن فقدانٍ كامل للتماسك العقلي والبوصلة الأخلاقية، وهو ما جعل أتباع تلك الجماعات أدواتٍ مثالية لتوظيفها في الصراعات التي تخدم خصوم الأمة لا قضاياها.
في المحصلة، يمكن القول إن ما نشهده اليوم ليس مجرد انحرافٍ سياسي أو اضطرابٍ في المواقف، بل هو تحوّل عميق في البنية النفسية والذهنية لدى شريحة واسعة من أبناء الأمة، نتيجة تراكمٍ طويل من الاختراق الفكري والإعلامي الممنهج الذي استهدف اللاوعي الجمعي للمسلمين.
وهكذا تحوّل التصهين اللاشعوري إلى أخطر أشكال الغزو الصهيوني، لأنه لا يُمارَس من الخارج بل من الداخل، بأيدي أولئك الذين ظنّوا أنفسهم يقاومون، وهم في الحقيقة يهيئون الطريق لعدوهم.
إن مواجهة هذا الخطر يستدعي بالمشكلة من اجل إعادة بناء الوعي الإسلامي على أسس معرفية وأخلاقية راسخة، تُعيد للعقل بوصلته، وللأمة قدرتها على التمييز بين عدوها الحقيقي ومن يتخفّى بثوب الصديق.