في أواخر سبتمبر 2025، خرجت علينا إدارة ترامب بخطة جديدة، رُوِّج لها كأنها «المبادرة التاريخية لإنهاء الحرب في غزة»، عشرون بنداً ظاهرها وقف إطلاق النار وإعادة الإعمار، لكن جوهرها واحد: نزع سلاح المقاومة، وتفكيك بنيتها، وتسليم غزة لإشراف دولي.
لقد سمعنا هذه اللغة مراراً: «سلام» مشروط، «هدنة» طويلة، «إعمار» مقابل الاستسلام، وما الخطة الأخيرة إلا نسخة مكررة ومتقدمة من مشاريع قديمة تهدف إلى تجريد المقاومة من سلاحها، وإخراجها من المعادلة السياسية والعسكرية، وتحويلها إلى مجرد ذكرى محبطة.
المشهد الإعلامي والسياسي العربي المرافق للخطة يكشف حجم المؤامرة: حملة دعائية ضخمة تُصوّر المشروع كأنه «السلام الكبير»، وبيانات ترحيب من أنظمة عربية وإسلامية لطالما تعوّدت أن تطعن خاصرة المقاومة.
لا ينبغي للدول العربية والإسلامية التي هرولت للترحيب بالخطة أن تظنّ نفسها بمعزل عن النتائج؛ فالتقارب مع صيغة تُشرّع تفريغ المقاومة لا يحميها من حسابات القوة التي تفرضها واشنطن وتل أبيب، ولا يحررها من وصمة الخيانة في أعين شعوبها.
ومن يشارك في تبييض صفقة تُسلب حقوق مقدسة لن يكون بمأمن من استغلال مصالحه أو ابتزازه لاحقًا، ولا من وصمة عار تاريخية ستلاحقه داخليًا وإقليميًا؛ والشرعية الشعبية لا تُشترى ببيانات خارجية، ومن خان الموقف سيجد أن ثمن ذلك باهظ في السياسة كما في الضمير العام.
إن اشتراط نزع سلاح المقاومة ليس بنداً عابراً، بل هو قلب المؤامرة، نزع السلاح يعني نزع الكرامة، يعني تجريد الشعب الفلسطيني من قدرته على الدفاع عن نفسه، وتحويل غزة إلى سجن كبير تحت رقابة دولية، يعيش على معونات مشروطة وفتات سياسي، أما تبادل الأسرى والإعمار، فهي وعود زائفة تُدار بعقلية المحتل نفسه، يعطي بيده اليمنى ما يسلبه باليسرى.
الخطر الأكبر أن الخطة تستهدف الروح المعنوية، إنها تريد أن تُقنع الشعوب بأن المقاومة عبث، وأن التضحية بلا جدوى، وأن الطريق الوحيد هو الاستسلام «المعقول»، هي حرب على الوعي، حرب على السردية التي صنعتها دماء الشهداء وصمود الشعوب.
وفيما القبول بالخطة يعني خيانة دماء الشهداء وتضحيات الأسرى، ويعني طي صفحة المقاومة من التاريخ، فإن الرفض لها ليس مغامرة، بل وفاء للمبادئ، شرط أن يُبنى على استراتيجية متكاملة تجمع بين الصمود الشعبي، والذكاء السياسي، والقدرة الإعلامية.
والرد يبدأ من الوحدة الفلسطينية، من اتفاق داخلي على خطوط حمراء لا يجوز التنازل عنها: لا لنزع السلاح، لا لإدارة أجنبية لغزة، لا لإعمار مشروط بالتفريط، هذه الوحدة ضرورة تاريخية، تُفشل كل محاولات شق الصف وزرع الانقسام.
ومن خارج غزة، فإن مسؤولية محور المقاومة وحلفائه أن يفضحوا الخطة ويواجهوها دبلوماسياً وإعلامياً وقانونياً، يجب أن نُسمع العالم أن ما يُقدَّم ليس سلاماً، بل استعمار جديد مغلّف بشعارات براقة.
يجب أن نرفع ملفات المجازر والانتهاكات، وأن نُحاكم الاحتلال أمام الضمير العالمي والمحاكم الدولية، فالمعركة اليوم ليست فقط على الأرض، بل على الكلمة، على الرواية، على الشرعية.
إنها لحظة فاصلة: إمّا أن تبقى فلسطين عنواناً للكرامة، أو تتحول إلى ورقة تقتل آمال الشعوب بخيار المقاومة، وتكشف عن تجربة كان نهايتها الفشل، والاختبار اليوم هو: من يظل وفياً لمبادئ المقاومة، ومن يختار طريق الاستسلام المغلّف بوعود كاذبة.