الأمريكان وحرب الوصاية على لبنان.. كيف يُعاد تشكيل الأجندة؟

محمد عبدالمؤمن الشامي

 

 

لم يكن لبنان يومًا مجرد رقعة على خريطة الشرق الأوسط، بل كان دائمًا مركز صراع نفوذ إقليمي ودولي، حُكم عليه أن يكون ساحة لتجاذبات القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. من خلال تاريخ طويل من التدخلات المباشرة وغير المباشرة، بات لبنان رمزًا للوصاية الأمريكية التي تسعى إلى إعادة تشكيل قراره الوطني وفق أجنداتها الخاصة، مستغلة أزمات داخلية عميقة لتعميق الهيمنة والسيطرة. في هذا المقال، نسلط الضوء على أدوار أمريكا المختلفة في لبنان منذ منتصف القرن الماضي، وصولًا إلى محاولات واشنطن الراهنة لإضعاف المقاومة وفرض الهيمنة السياسية، والتي تشكل تحديًا حقيقيًا لإرادة الشعب اللبناني واستقلال قراره الوطني.
منذ اللحظة الأولى التي حطت فيها أقدام المارينز على شواطئ بيروت عام 1958، لم يكن حضور أمريكا في لبنان إلا وجهًا آخر من وجوه الاحتلال المقنع، جاء تحت شعارات حماية الاستقرار والديمقراطية، بينما كان الهدف الحقيقي إحكام القبضة على القرار اللبناني وتحويله إلى ورقة في يد واشنطن. أنزلت قواتها على الساحل لمنع أي تقارب لبناني مع المد القومي العربي، ولتجعل من لبنان قاعدة متقدمة لمشاريعها في المنطقة. ومع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، تحركت واشنطن من خلف الستار كالمهندس الخفي للفوضى، تغذي الانقسامات الطائفية، تدعم الاحتلال الإسرائيلي سياسيًا وعسكريًا، وتفتح الطريق أمام تل أبيب لتفرض نفسها بالقوة على الأرض اللبنانية.
في عام 1982، حين اجتاحت إسرائيل بيروت، كان الانحياز الأمريكي فاضحًا، فالأسطول الأمريكي الراسي قبالة الساحل لم يكن لحماية المدنيين، بل لحماية آلة القتل الصهيونية، وحين وقعت مجزرتا صبرا وشاتيلا التي هزت العالم، كانت واشنطن الضامن الكاذب الذي تعهد بحماية المدنيين، ثم انسحب وتركهم فريسة للذبح، ووقف بعدها كحارس لإسرائيل يمنع أي إدانة أو محاسبة. ومع تصاعد المقاومة ضد الوجود الأمريكي، جاء تفجير مقر المارينز عام 1983 ليكسر الغطرسة الأمريكية ويجبر قواتها على الانسحاب المذل، لكنها لم تخرج من لبنان سياسيًا، بل واصلت حربها بأساليب أخرى: حصار اقتصادي، عقوبات مالية، ضغوط سياسية، ومحاولات دائمة لتجريم قوى المقاومة وتشويه صورتها.
وفي العقود الأخيرة، تحوّل لبنان إلى ساحة ابتزاز أمريكي، فكل حكومة لا تنصاع لشروط واشنطن تواجه الانهيار المالي والحصار الدولي، وكل مسار اقتصادي أو سياسي لا يخدم مصالحها يُقابل بالتجويع والضغط.
واليوم، يتجدد هذا المشهد مع إعلان المبعوث الأمريكي توم باراك تهانيه للحكومة اللبنانية على قرارها “التاريخي والجريء” بنزع سلاح “حزب الله”، قرار وصفته واشنطن بالحل الوطني و”وطن واحد وجيش واحد”. في هذا التوقيت الحرج، وسط أزمات اقتصادية وسياسية خانقة، تأتي هذه الخطوة محاولة أمريكية واضحة لإضعاف المقاومة التي شكلت الحصن المنيع ضد الاحتلال والتدخلات الخارجية، وطمس صوت رفض الهيمنة والسيطرة.
ما تخفيه هذه التصريحات ليس سوى رغبة في إعادة ضبط المشهد اللبناني بما يخدم مصالح واشنطن وتل أبيب، على حساب سيادة لبنان ووحدة قراره الوطني. هذا التاريخ الأسود للتدخل الأمريكي، من الغزو العسكري في خمسينيات القرن الماضي، إلى دعم الاحتلال الإسرائيلي، مرورًا بمجزرة صبرا وشاتيلا، ومن ثم الحصار الاقتصادي والسياسي، لا يزال يتواصل اليوم بأدوات أكثر تعقيدًا وأقل وضوحًا، لكنه لا يقل فتكًا وتأثيرًا.
لقد كان دور أمريكا في لبنان دائمًا دور المعتدي لا الحليف، المحتل لا الصديق، من يحمي القتلة لا الأبرياء. وهذه الحقيقة يجب أن تبقى واضحة لكل لبناني ولكل من يظن أن واشنطن تقدم الإنقاذ. فالتاريخ شاهد على أن اليد الأمريكية التي تتظاهر بالإنقاذ هي ذاتها التي تدفع الشعوب إلى الهاوية. المقاومة ليست مجرد سلاح، بل هي صرخة حرية ورفض وصاية، ورسالة تحذير لكل من يريد لبنان حرًا ومستقلاً.
إن معركة لبنان الحقيقية اليوم ليست فقط على الأرض أو في السياسة، بل في الوعي الوطني الذي يستطيع أن يميز بين من يدّعي الحماية وبين من يفرض الوصاية، بين من يدافع عن السيادة وبين من يسعى لتفكيك المقاومة التي تمثل صمام أمان لبنان في وجه الهيمنة الأجنبية. إن المقاومة ليست مجرد سلاح، بل هي تعبير عن إرادة شعب يرفض الذل والاستسلام، ورسالة لكل من يحلم بلبنان حر ومستقل. تبقى اليد الأمريكية التي تقدم نفسها كمنقذ، في الحقيقة، اليد التي تكتب تاريخ الألم والاحتلال، والتحدي الأكبر يكمن في قدرة اللبنانيين على استعادة سيادتهم وكرامتهم الوطنية.

قد يعجبك ايضا