طاهش الحوبان.. الكــــــــذبة المتوحشـــــــة !!


عباس السيد –
القردعي سِلِخِ النمر في مارب .. و أبو راس قطع لسان الطاهش في تعز .. والإمام استضاف الأسود في قصوره !!
طاهش الحوبان.. الكــــــــذبة المتوحشـــــــة !!
> تشير الكثير من المصادر التاريخية إلى أن تعز كانت موطناٍ للعديد من الحيوانات المفترسة مثل الأسود والنمور والوعول والضباع والحمير الوحشية وقد أهدى الملك المؤيد هزبرالدين يوسف بن داؤود أحد ملوك الدولة الرسولية في القرن الرابع عشر الميلادي السلطان المملوكي في مصر عدداٍ من الحيوانات ” فيل وحمار وحشي وزرافة ” مكسوة بالحرير والأطلس كما استخدم الملك المؤيد الرسولي الفيلة في حربه مع أخيه المسعود .
وقد ساهمت الطبيعة الجغرافية لتعز وبيئتها الغنية والمتنوعة بين السهول والجبال والمرتفعات والصحارى في أن تكون موطناٍ ملائماٍ لمعيشة مختلف الحيوانات التي انقرض معظمها في العصر الحديث بسبب التوسع في العمران والطرق .
وبغض النظر عن حقيقة ” طاهش الحوبان ” إلا أنه قد يأتي إمتدادا للعلاقة التاريخية القديمة لتعز مع الحيوانات المفترسة وربما ” استغلالا ” لتلك العلاقة التي اختزلت مؤخرا في ” طاهش الحوبان “.

مثلث برمودا في الحوبان
> كان اختيار الحوبان كمقر إقامة لـ ” الطاهش ” ينم عن ذكاء ووعي استراتيجي ـ سواء كان ذلك الاختيار من قبل الطاهش نفسه أو بواسطة من اخترعوه .
فالحوبان كانت إلى ماقبل بضعة عقود عبارة عن منطقة سهلية شاسعة مليئة بالأحراش وغير مأهولة بالسكان ولكنها تعد ممراٍ رئيسياٍ واستراتيجياٍ يربط مدينة تعز بالعديد من المناطق المحيطة بها وبغيرها من المحافظات الشمالية والجنوبية أيضا إذاٍ بيئة الحوبان وجغرافيتها ملائمة جدا كي يتخذ منها الطاهش أو أي حيوان مفترس مقرا رئيسا له وبالتالي يصبح المرور عبرها مغامرة تشبه الإبحار في مثلث برمودا .
كان معظم السكان في النواحي والقرى المحيطة بمدينة تعـز ينامون مرعوبين خوفا من طاهش الحوبان باستثناء سكان المدينة القديمة التي كانت محصورة خلف الأسوار في المنطقة الواقعة بين شارع 26 سبتمبر من جهة الشمال وأقدام جبل صبر من جهة الجنوب فقد كانت تغلق أبوابها بعد صلاة المغرب وحتى تشرق الشمس من فـجر اليوم الثاني . وحتى في القرى التي تفصلها عن الحوبان سهول وجبال وعشرات الكيلومترات كان الطاهش وسيلة مثالية عند كثير من الآباء والأمهات لدفع أبنائهم إلى البقاء في المنازل والخلود إلى النوم باكرين .

مفارقات
> في نفس الوقت كان الإمام يربي في قصره بحي صالة وكذلك في العرضي الكثير من الحيوانات الأكثر بأساٍ وشراسة من ” طاهش الحوبان ” كالأسود والنمور في حين أن الطاهش ـ الذي ليس له أصل في موسوعة الحيوانات ـ هو بحسب وصف الكثيرين أصغر حجما من الأسد ويشبه الضبع إلى حد كبير وفي محاولة لتأصيله يقول البعض أنه حيوان هجين ناتج عن علاقة تناسل شاذة جرت بين ذئب وضبع ولم يفسر أصحاب هذا الرأي أسباب استمرار ظاهرة الطاهش كل هذه العقود وكيف تحول من حيوان هجين ” مستنسخ ” إلى سلالة أو فصيلة تتناسل وتتكاثر عبر المكان والزمان .!
نعود إلى الحيوانات المفترسة الحقيقية في قصر الإمام حيث كان الناس الذي يأمون القصر يشعرون بجوارها بالأمان ولا يترددون عن استفزازها بوخزها بعصيهم وهي قابعة خلف القضبان ليتسلوا بحركاتها وزئيرها .. وفي قرارة أنفسهم كانوا يشعرون بعظمة الإمام وقدراته الخارقة التي جعلت من تلك الأسود والنمور المفترسة مجرد حيوانات أسيرة أسفل قصره لا حول لها ولا قوة وهذه هي الرسالة التي كان يقصدها الإمام من تربية تلك الحيوانات في قصره وجعلها متنفسا متاحا للعامة .

الطاهش وهم تاريخي
> كيف ينظر الناس في تعز إلى ظاهرة ” طاهش الحوبان ” في هذه الأيام¿ طرحنا هذا السؤال على عدد من أبناء المحافظة وخرجنا بهذه الآراء :
بحسب رأي عبد القيوم علاو ” أحد الشخصيات الاجتماعية في مديرية خدير المتاخمة للحوبان وهو الآن مستشار الجالية اليمنية بالمملكة السعودية ” طاهش الحوبان هو بحقيقة الأمر وهم تأريخي من صنع الخيال تفننت بصنعه فئة من الناس الذين لا همِ لهم إلا مصالحهم الشخصية وأنانيتهم غير الوطنية واستغلال الضعفاء من عامة الشعب المغلوب على أمره. أما طاهش الحوبان فما هو إلا شخصية بلطجية مريضة ومعها شلة من الأشرار يقومون بترويع المواطنين واستغلال سذاجة البعض منهم والاستيلاء على أموالهم ومن ثم التخلص منهم بالقتل وإخفاء الجثث بحجة أن طاهش الحوبان هو الذي التهم جثث هؤلاء وبطش بهم وأكل لحومهم.
ويتساءل علاو عن سر بقاء هذه الأْسطورة متجددة ونشيطة رغم سقوط كل الأساطير الخرافية واندثارها ورميها في مزبلة التاريخ !! بينما كان ولا يزال هاجس طاهش الحوبان يؤرق مضاجع الكثير من أبناء محافظة تعز وخاصة تلك المديريات والقرى الملاصقة لمنطقة الحوبان ـ بحسب رأي علاو ـ .
وهكذا ظل طاهش الحوبان أسطورة حتى جاءت الثورة المجيدة واختفت هذه الظاهرة لفترة وجيزة من الزمن ولكنها فجأة ظهرت من جديد وعاد الناس يتحدثون عن هذه الأسطورة العجيبة وعن قوة بطشها وتأثيرها الذي يرقى إلى مستوى الخيال المقرون بالخرافات التاريخية التي كنا نسمعها من جداتنا.

رأي مغاير
> في حين يرى أحمد المليكي أن طاهش الحوبان حقيقة وليس أسطورة ولا يزال موجودا إلى الآن وهو يشبه حيوان الضبع ويعيش بوادي الذراع شمال مدينة تعز المجاور لمنطقة الحوبان وقد ارتبط اسمه بالحوبان لأنها كانت خالية من السكان أما الآن فقد أصبحت من ضمن مدينة تعز بينما لا يزال وادي الذراع خاليا من السكان .
ويؤكد المليكي أن وجود طاهش الحوبان حقيقة وهو ضبع رآه بنفسه وهو يقود سيارته كما رآه أناس كثيرون ممن يمرون بوادي الذراع الذي يربط مدينة تعز بشرعب ومذيخرة وبني مليك والعدين في إب ـ بحسب المليكي ـ
أحد سكان مدينة تعز أمين عبد الكريم يقول : في الماضي كانت هناك مجموعات من قطاع الطرق يستغلون هذه الشائعة للوصول الى مقاصدهم ولكن هذا لا ينفي وجود وحوش مفترسة تهاجم الناس التي تمر بتلك المنطقة وخصوصا أثناء الليل وقد اشتهرت تلك الوحوش بشراستها المفرطة أما الآن فقد انتشرت المساكن في أرجاء الحوبان ولم يعد هناك وجود لتلك الوحوش .
بينما يرى عبد الرزاق الصبري ” مدرس علم اجتماع ” أن طاهش الحوبان كان وسيلة لتخويف ليس فقط سكان الحوبان بل كل المناطق والمديريات التي تحيط بمدينة تعز كمقبنة صبر جبل حبشي الوازعية وموزع والحجرية وغيرها.. ويضيف الصبري : في عصرنا الحاضر تتوقف خيرات الثورة في الحوبان عاجزة عن مواصلة المسير إلى تلك المديريات وكأنها تخشى الطاهش هي الأخرى .
ويضيف الصبري : كان الحكام والولاة ـ قبل الثورة وبعدها أيضا يعلمون حقيقة طاهش الحوبان إلا أنهم كانوا راضين كل الرضا لهذه الأفعال كونها تخدمهم وتعينهم على السيطرة والتحكم بالأمور فطالما كانت الناس مشغولة بأمر طاهش الحوبان فإنهم لن يلتفتوا إلى ما يقوم به الحاكم من أفعال وأعمال وقد كان المسافرون بالفعل يسيرون في طريق الحوبان في مجموعات وأغلب تنقلاتهم كانت تتم نهاراٍ خشية من الطاهش .
وعلى الرغم من معرفة الكثيرين بخرافة الطاهش إلا أنه لا يزال حتى الآن يمثل رمزاٍ للقوة والبطش والشجاعة عند مختلف الفئات والشرائح بمستوياتها الثقافية المختلفة وأصبح طاهش الحوبان كنية لنادي الطليعة ـ مع أن مقره وملعبه في بير باشا شرق المدينة ـ وكذلك أصبح اسم الشهرة للأديب الشاب محسن عايض .

الطاهش في الأدب اليمني
> تعتبر قصة طاهش الحوبان التي كتبها الروائي والقاص اليمني زيد مطيع دماج أبرز الأعمال الأدبية التي تناولت طاهش الحوبان ” شخصيا ” ولعل المثير والغريب في ذلك العمل الأدبي هو ما ورد كهامش مذيلا للقصة حيث جاء في الهامش أن الطاهش حيوان مفترس يوجد في كثير من أودية اليمن وأن طاهش الحوبان هو الأشهر وهو كما يقال مسخ ذئب وضبع .
وجاء في الهامش أيضا : إن بطل القصة ” عبد الله بن صالح ” هو تجسيد للشخصية الحقيقية للنقييب ” عبد الله بن محمد أبو راس ” الذي مر بمنطقة الحوبان على فرسه مع مرافقه ليلا في طريقهما إلى تعز وهو بطل القصة الحقيقي .. إذ أن القصة نفسها واقعية ـ كما جاء في الهامش ـ .
وتروي أحداث القصة المعركة الطويلة التي دارت بين النقيب أبو راس وطاهش الحوبان والتي انتهت بمقتل الطاهش بعد تلقيه أكثر من رصاصة والعديد من الطعنات بينما كان مرافقه مذعوراٍ متسمراٍ فاقداٍ لوعيه بعد أن تسلق إحدى الاشجار تاركا أبو راس يواجه الطاهش بمفرده ولم ينزل من مكانه إلا بعد أن قذفه أبو راس بحجر فسقط ” وكأنه ثمرة ” لمساعدة أبو راس في قطع لسان الطاهش الذي كان عاجزا عن الحركة ويعاني النزع الأخير ومع ذلك لاك عقب البندقية بين أضراسه كالبسكويت وتحولت الحجر التي القمهْ إياها المرافق إلى تراب قبل أن ينهار تماماٍ ليتمكنا بعدها من قطع لسانه ومواصلة السير نحو مدينة تعز ومقابلة ولي العهد آنذاك ” أحمد بن يحيى حميد الدين ” الذي كان يتربص بالنقيب أبو راس ـ حسب القصة ـ .
وبما أن القصة حقيقية ـ كما يذكر هامشها ـ يحق لنا أن نسأل : لماذا استمرت ظاهرة ” طاهش الحوبان ” بعد أن قتله أبو راس وكيف تحول الطاهش ـ وهو حيوان مسخ ـ إلى سلالة عاصرت أجيالا على مدى عشرات من العقود .
لقد تسبب الهامش في إضعاف القصة بصفتها عملا أدبيا بمدلولات سياسية واجتماعية رمزية تتجاوز المكان والزمان وتحولت بفعل ذلك الهامش إلى مجرد حكاية من الحكايات الشعبية الخرافية التي يتناقلها الناس عن الطاهش ومن غير المعلوم ما إذا كان الهامش قد أضيف من قبل المؤلف وبمعرفته أم أن ذلك تم من سواه ودون علم المؤلف .

القردعي والنمر
> قصة أبو راس مع طاهش الحوبان تأتي وكأنها محاكاة لقصة الشهيد علي ناصر القردعي ومعركته البطولية مع النمر عندما كان شابا يرعى الأغنام بمضارب قبيلته في مارب ” والتي انتهت بمقتل النمر وسلخه كالخروف “.
الروايات والسير التاريخية للمناضلين والشهداء اليمنيين تؤكد أن القصة حقيقية وتستدل على ذلك من خلال الندوب التي رسمتها مخالب النمر والتي ظلت آثارها واضحة على أنف الشهيد القردعي وعينه ووجهه طوال حياته وعلى الرغم من التشويه الذي أحدثته تلك الندوب في وجه القردعي إلا أنها في نظر الكثيرين كانت أشبه بـ ” وسام الشجاعة ” ويبدو أن ذلك قد أهله لاحقاٍ لتنفيذ عملية اغتيال الإمام يحيى عام 48م .
وسنعرض هنا ملخصا لمعركة القردعي مع النمر كما ترويها العديد من السير والر وايات :
كان الشهيد القردعي يرعى في المراعي أذواداٍ من الشياه والنعاج والخرفان والماعز وفي غفلة منه وثب أحد النمور على قطيع من الخرفان والنعاج فافترس بعضاٍ منها ثم انسل يعدو إلى كهفه في سفح الجبل وهنا ثارت ثائرة البطل وانتابه الحياء والخجل في أن تعتبره عشيرته وأهله جباناٍ بتقاعسه عن ملاحقة النمر وقتله فأقسم أن يقتل النمر مهما كلفه ذلك من ثمن وقد آلى على نفسه ألا يقاتل أو يقتل النمر ببندقية أو سيف بل بخنجر فاحتزم بحزام شده على بطنه بعسيب وخنجر »جنبية« وظل يقتفي أثر النمر حتى عرف مكمنه في كهف بسفح جبل كان يأوي إليه وأخذ فروعاٍ من شجرة العلب أو ما يسميها البعض شجرة الدوم ـ وهي شجرة ذات أشواك شمط ـ لا ليتقي بها ضربات أنياب وأظفار النمر أو ترساٍ ومجناٍ بل ليتحرشه بها ويخرجه من مكمنه.. وفعلاٍ خرج النمر ليفترس هذا الذي جاء يتحدى أمير الوحوش..
وهنا دارت معركة مهولة بين أمير الوحوش »النمر« والبطل الشجاع القردعي الذي ظل يكيل الطعنات للوحش الضاري حتى انتصر عليه وقتله.. بيد أن النمر قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تمكن من ضرب القردعي بمخالبه فشرم جزءاٍ من أسفل أنفه ونزع إحدى عينيه. وحينها حمله على كتفيه إلى داره وألقاه في الأرض والدماء تسيل من الجروح التي في أنفه وعينه وهو شامخ بقامته المديدة وتجمع سكان القرية من الرجال والنساء والأطفال ليشاهدوا ما صنعه بطلهم بل أسد من أسود اليمن . “
وبغض النظر عن حقيقة القصتين ” أبو راس وطاهش الحوبان والقردعي مع نمر مارب ” إلا أنه يمكن اعتبارهما تندرجان في إطار معركة استعراض القوة بين الحاكم والمعارضة باستخدام الوسائل والآليات المناسبة لكل زمان ومكان . وفي ذلك ما يعيدنا إلى حكايات مشابهة نقلت إلينا عبر الموروث الشعبي والثقافي العربي شعرا أو نثرا لنماذج من هؤلاء الذين تميزوا بالبطولة والشجاعة النادرة من أمثال بشر بن أبي عوانة العبدي ـ من شعراء الصعاليك ـ وقتله أسداٍ في الخبت وهو صاحب القصيدة التي مطلعها:
أفاطم لو شهدت ببطن خبتُ
وقد لاقى الهزبرْ أخاك بشرا
وكذلك قصة جحدر وقتله للأسد أيام الحجاج هو يقول:
ليثَ وليثَ في مجال ضنك
كلاها ذو بطشةُ وفتك
أن يحسر الله قناع الشك
فأنت لي في قبضتي وملكي

قد يعجبك ايضا