
استطلاع/ عباس السيد –
منذ أن غادرت حاشية الإمام قصر صالة جنوب مدينة تعز صبيحة قيام ثورة 26 سبتمبر تعددت وظائف القصر وتنوع نزلاؤه حيث اتخذ مقراٍ لتجنيد الحرس الوطني بعد قيام الثورة ثم مقراٍ لجبهة تحرير الجنوب ومعسكرا لتدريب أفراد الجبهة ثم تناوبت عليه العديد من الوحدات العسكرية والأمنية .
وفي عام 1980 قررت محافظة تعز وهيئة الآثار والمتاحف تحويل قصر الإمام في صالة إلى متحف لعرض مقتنيات الإمام أحمد وهداياه فضلاٍ عن القطع واللقى الأثرية القديمة التي عثر عليها في المواقع الأثرية في تعز.
تم تنفيذ القرار ولكن بشكل جزئي حيث خصص للمتحف الجزء الغربي من القصر فقط فيما ظلت بقية المبنى خاضعة لمهام جهاز الاستخبارات العسكرية ومع ذلك شهد المتحف إقبالا كبيرا من الزوار المحليين والسياح الأجانب ومنذ عام 1999 انحسرت أعداد زوار المتحف بعد نقل الأسود من باحة القصر إلى حديقة الحوبان .
وفي 2003 أغلق المتحف أبوابه بعد سرقة إحدى مخطوطاته وقد كانت عبارة عن أربع صفحات من التوراة مكتوبة باللغة العبرية وبعد التحقيقات قيدت الحادثة ضد مجهول وأغلق بعدها المتحف لمدة عامين ثم عاود نشاطه منتصف 2005 ولكنه أغلق تماما في 2006 بعد ظهور صدوع وتشققات في جدران المبنى .
أواخر أغسطس الماضي لم يكن « العبد لله محرر المادة « يعلم بقرار الإغلاق الأخير نزلت من صنعاء « مكور» نحو قصر صالة .. دفعتْ أجرة السيارة وأخرجت كاميرتي لأبدأ بالتقاط صورة البوابة الرئيسية وقد كنت مطمئنا لوجود لوحة صغيرة على عقد الباب مكتوب عليها « متحف صالة « .. نهض الجندي حارس البوابة من مقعده وهو يصرخ بغضب ويدق بأصبعة الوسطى على جانب جبهته مستنكرا ما قمت به .. حاولت تهدئته .. أشرت إلى اللوحة المعلقة وبأنني صورت بوابة متحف فاشتاط غيظا وتوعد بإنزال اللوحة وتكسيرها تحت قدميه هكذا : « دق الأرض ببيادته مرات « .
ومثلما علقتْ « خطئي « على شماعة اللوحة صب الحارس جام غضبه فوقها لتبقى بيننا شعرة معاوية متصلة .. اقتربت منه وعرفته بنفسي فسمح لي بتخطي عتبة البوابة الرئيسية لفناء القصر لنجلس سوية إلى جوار البوابة وعرفت منه أن القصر لم يعد متحفا وأصبح تابعا لأحد الألوية العسكرية وتحديدا مؤخرة اللواء .. سألته عن معنى « مؤخرة « اللواء فأوضح المعنى ولكنه كان مستمتعا « بغبائي « ولذلك أحجمت عن سؤاله عن مقدمة اللواء كي لا أزيد من نشوته .
قصر الأشباح
البوابة الخشبية الضخمة مفتوحة على مصراعيها منذ سنوات .. جزؤها السفلي يغرق في الأرض وقد تم استبدالها بأخرى معدنية صدئة .. مباني القصر المشيدة على الطراز الصنعاني تمتد على مساحة شاسعة وتبدو من الخارج مهجورة تسكنها الأشباح النوافذ مفتوحة ومكسرة وقد نزعت حتى الإطارات الخشبية من بعضها وأخرى مغلقة بالأحجار أو الكرتون .. الواجهة الخارجية للطابق الأرضي المطل على الفناء الداخلي مكسوة بطبقة من الاسمنت غطت أحجار الآجر تماما وشوهت القيمة الجمالية والتاريخية للمبنى .
ودعت العسكري وأخذت مكاني فوق صخرة ضخمة ملاصقة للطريق الإسفلتي الذي ينتهي عند بوابة القصر ـ التي لم أتمكن من تجاوزها سوى بخطوتين ـ ولذلك أجدني لازلت مشدودا إلى المبنى ولم يكن بوسعي سوى إمعان النظر من الخارج .
نسمات الهواء البارد ة والمنعشة تغريك لإطالة مدة بقائك في المكان الذي تطل منه على معظم أحياء المدينة التي تلفظ أنفاسها قيضا في تلك الساعة ولذلك تدرك بسهولة لماذا اختير هذا المكان موقعا للقصر .
دارا النصر والناصر
تركت صالة وقصرها الذي كان يعد الثاني بين قصورالإمام في تعز من حيث أهمية المبنى وإقامة الإمام إذ يأتي بعد قصر العرضي وهما القصران الوحيدان الباقيان من نحو خمسة قصور إمامية في تعز حيث هدم دار الناصر في باب المداجر ـ غربي المدينة ـ وسرقت أحجاره وأخشابه على مدى سنوات وعلى مرأى ومسمع الجهات المعنية كما هدم دار النصر الذي كان في قرية صهلة بجبل صبر والتي لا زالت القرية تسمى أيضا باسم الدار « دار النصر « وقد تم هدم الدار في إطار مشروع منتزه زايد وكان المبنى الرئيسي لدار النصر يستخدم حتى السبعينيات من القرن الماضي كمدرسة ابتدائية عرفت باسم « مدرسة الإصلاح « كما استخدمت أجزاء من المباني الملحقة بالقصر كمقر لإدارة ناحية صبر.
إلى قصر العرضي
اتجهت صوب العرضي فمتحف صالة وإن كان مغلقا فلن يكون بأهمية المتحف الوطني في قصر الإمام بالعرضي .. هكذا حدثت نفسي ـ والعرضي في تعز هو اسم الحي المحيط بقصر الإمام وكان يشمل عددا من مقرات الأجهزة الرسمية في العهد الملكي ومن بينها العرضي وهي ثكنة للجيش ومكان للعروض العسكرية وجميعها واقعة في الأطراف الشمالية لحي الجحملية السفلى ويقع ضمن هذا الحي حاليا ميدان الشهداء وكلية الآداب وحديقة جاردن سيتي . وقد لاحظت أن اسم العرضي لم يعد متداولا إلا من قبل كبار السن أو الغرباء عن المدينة ـ .
في مدخل المتحف الوطني بالعرضي كان مجموعة من موظفي مكتب الآثار والمتاحف والمخطوطات الواقع ضمن المباني الملحقة بالقصر « المتحف « يغلقون المدخل المؤدي إلى البوابة بحواجز معدنية ويتكئون على جانبي المدخل الرئيسي في اعتصام هو الأطول في تاريخ الاحتجاجات المدنية .
اعتصام الموظفين الذي بدأ قبل ثمانية أشهر ـ حسب قولهم ـ يأتي احتجاجا على تكليف المحافظ السابق حمود الصوفي للأخت بشرى الخليدي كمديرة للمكتب خلفا للعزي محمد مصلح الذي أحيل على التقاعد . « .. موظفو المكتب المعتصمون يرون في قرار التكليف تهميشا للكوادر المؤهلة في المكتب وقد جانب المصلحة العامة واعتمد على المحسوبية فالمديرة المكلفة ـ وإن كانت من ضمن موظفي المكتب ـ إلا أنها غير متخصصة في الآثار وتحمل مؤهلاٍ تربوياٍ ـ بحسب المعتصمين الذي يقولون أنهم لن يسمحوا لها بدخول المكتب وهو ما اضطرها إلى مزاولة عملها من مقر مكتب التحسين ـ كما علمت .
وفي الحقيقة لم يكن مبرر الاعتصام مقنعا لي فقد كان إغلاق المتحف الوطني صادما ومخيبا لآمالي وخصوصا بعد عودتي من متحف صالة بخفي حنين وقبل ذلك عدت بنفس الخفين من متحف القلعة ـ التي أفردت لها موضوعا خاصا ضمن هذا الملف ـ .
لقد كانت الحاجة إلى دخول المتحف « أي متحف « في تعز تعد حاجة شخصية لي ـ بغض النظر عن مهمتي الصحفية ـ وهذا ما جعلني أشعر بخيبة أمل جرفتني إلى مشادة كلامية مع الموظفين المعتصمين وقد تجاوزناها فيما بعد عندما أدركوا حقيقة مشاعري وأن لا علاقة لي بالمدير الجديد أو القديم وتكرموا مشكورين بالسماح لي باجتياز البوابة الرئيسية والطواف معهم في فناء المتحف .
ومن خلال الأخوين عبدالإله شمسان كبير أخصائي الآثار في المكتب والأخ عبد القدوس أسحم – مدير إدارة الآثار تعرفت على واقع المتحف الوطني ومكتب الآثار في المحافظة .. وقد أكدا لي أن محتويات المتحف الوطني ومتحف صالة محفوظة في مخازن مكتب الآثار إلى حين الانتهاء من ترميم مبنى المتحف الوطني ـ الذي كنا نجلس في فنائه ـ وقد أتاحت عملية الترميم الفرصة لتوثيق كل الآثار والتحف بطريقة علمية حديثة .
المتحف في المخزن
القصر الذي بدأت عملية ترميمه في 2008 ولم تكتمل بعد يتكون من أربعة طوابق بنيت خلال فترات مختلفة من الحجر والآجر على الطراز الصنعاني كباقي قصور الإمام حيث بني الطابق الأرضي أثناء الحكم العثماني للمدينة وكان يسمى « بيمارستان « وهي كلمة تستخدم في اللغة التركية والفارسية وتعني مستشفى ولكن النافورة الكلاسيكية الفخمة في الفناء تدل على أهمية المكان ووظيفته كمقر للحاكم وليس مبنى خدميا للعامة .
في فترة ولاية الأمير علي الوزير على تعز أثناء حكم الإمام يحيى تم إنشاء الطابق الثاني ثم قام الإمام أحمد بإنشاء الطابقين الثالث والرابع ليبدو على ذلك النحو إذ لا يقل فخامة في منظره الخارجي عن القصر الجمهوري بصنعاء .. إلا أن ذلك المنظر لا يبدو كذلك من الخارج فالقصر يختفي خلف عدد من المباني المتواضعة في مظهرها ـ كغرف الحراسات فوق البوابة الرئيسية وتأتي بعدها المباني المستخدمة كمكاتب لموظفي مكتب الآثار والعديد من الإضافات التي تمت حديثا في فناء القصر بطريقة عشوائية لا يمكن لمكتب الآثار أن يبررها بقلة الحيلة أو ضيق اليد فعدد موظفي المكتب كان أقل من أربعين شخصا حتى العام الماضي 2011 وكان يمكن استيعابهم في شقتين للإيجار بدلا من إقامة تلك العشوائيات في فناء المتحف القصر .. وليعذرنا الإخوة في مكتب الآثار فلسنا هنا بصدد التحامل عليهم ولكن الغصة تكون كبيرة وخانقة عندما يكون للمعنيين في حماية مثل تلك المعالم نصيب في تلك الأضرار أو التشوهات .
خاص بالحريم
وباعتبار العمارة هي جزء من الفنون فإنه بمقدور أي شخص يتمتع بقدر بسيط من التذوق الفني والجمالي أن يدرك أن المدخل الحالي للمتحف الوطني أو البوابة الرئيسية كما أسميناها من قبل لا يمكن أن تكون كذلك فالذي بنى ذلك القصر الفخم لا يمكن أن يجعل بوابته الرئيسية متواضعة على ذلك النحو .. وبالفعل كانت شكوكي في محلها فالبوابة الحالية كانت مخصصة « للحريم « من حاشية الإمام ولم تكن مدخلا رئيسيا ـ بحسب الوالد يحيى ضبيان الذي يعمل في القصر منذ أواخر الخمسينيات ـ بينما اختفى المدخل الرئيسي وابتلعت المرافق والمنشآت المجاورة مساحات شاسعة كانت تابعة للقصر .
الوالد ضبيان بدأ حياته في المكان سايسا في اصطبل الخيول التابع للقصر وبعد الثورة استأنف عمله كحارس للمبنى الذي يأبى أن يفارقه حتى بعد أن أحيل على التقاعد .. أين أروح ¿ لا معي بيت ولا مرة ولا عيال أنا هنيه .. هكذا يتساءل الوالد يحيى ضبيان ويجيب على نفسه فيتغامز بعض الموظفين محاولين توضيح معاناته « التي تعد شرطا في الغلمان الذين يقومون بوظائف خدمية في أروقة القصر « ويتحمل مسؤوليتها الإمام ـ حسب قولهم ـ
عرين الكلاب والقطط
كان صوت الكلاب الصادر من مكان مرتفع في فناء القصر يقطع حديثنا ولما استفسرت عن علاقة الكلاب بالمكان قالوا إنها من سلالة ألمانية نادرة وترجع علاقتها بالمكان إلى عهد الإمام فاقتربت من مكان الصوت وصعدت بعض الدرجات لأتعرف على الكلاب الألمانية وقد كانا كلبين أحدهما أسود والثاني مائل إلى الأصفر محتجزين في قفص معدني كان مخصصا للأسود ولما اقتربت منهما لم أجد فيهما اختلافا عن الكلاب اليمنية المتشردة التي نراها في كل مكان .
وفي اليوم التالي انفردت بالوالد ضبيان في محاولة لاستعراض ذكرياته في القصر ولكني وجدته يتحدث عن الماضي بوفاء وحنين وشجون .. كان معاشي عشرة ريالات ريال ينطح ريال يتبعها بحركة غريبة من لسانه ويده في مشهد تمثيلي ـ صوتي حركي ـ لعشرة ريالات معدنية تنطح بعضها .. ثم يضيف محاولا التوضيح بطريقة أسهل : عشرة ريالات تكفيك تسير تحج وترجع بالباقي .. وفي كل مرة أسأله عن الإمام يكرر : الله يرحمه رحمة الأبرار و… ويستطرد في دعائه كمن يقرأ في ورد .. تلفتْ حولي وعملتْ على « فرملته « هامسا في أذنه : أنا أعمل في صحيفة الثورة يا حاج مْش في صحيفة النصر .
اعتصام إلهي !
وبعد أن تكاثرت القطط حولنا نهض الوالد ضبيان حاملا بيده كيسا ممتلئا بمخلفات الجزارة متجها نحو الداخل فقد حان موعد الغداء للقطط والكلاب بينما عدتْ للجلوس مرة أخرى مع الموظفين المعتصمين لمناقشتهم في مضمون اللوحة القماشية « عنوان الاعتصام « فقد كان مثيرا ومستفزا في آن ولم أتمعن في اليوم السابق فيها وقد كانت اللوحة تتضمن التالي : « مستمرون في الاعتصام حتى يأذن الله ويهدي الله المحافظ ويزيل الله الوزير « وسألتهم من وحي قراءتي للوحة متظاهرا بالمزاح : هل يعني ذلك أنكم معتصمون بأمر الهي ¿ وهل ترون أن المحافظ ضال ـ مع أنه جديد ولا علاقة له بالقرار ـ ثم شرطكم « يزيل الله الوزير « يتجاوز طلب الإقالة أو التغيير إلى الموت فهل أنتم مع موت الوزير حتى وإن تم بحزام ناسف ـ لا قدر الله ـ ¿ أجازوا بعض ما طرحت ونفوا البعض ثم اتهموني « بتعقيد الأمور « ولم أدر أين البساطة في شروطهم وقد حملت كل العقد ولو أنني لم أتظاهر بالمزاح لاتهموني بأكثر من ذلك .. المثير أنهم كانوا يقولون أن احتجاجهم كان سيأخذ شكلا آخر « أكثر حزما « لو أن المدير المكلف كان رجلا ولكن المشكلة « أنها امرأة « . ولا أدري هل كانوا سيقدرون على منع المدير الجديد من الدوام في المكتب لو كان رجلا كما يفعلون الآن مع المديرة « الحْرمة « .
وقبل أن أغادر المكان سرى بينهم خبر عن احتمال قدوم قناة المسيرة لتغطية الاعتصام رحب البعض فيما انبرى بعضهم معلنا رفضه لقناة المسيرة قائلا : إلا المسيرة قناة الحوثيين أبدا إحنا مختلفين معهم عقائديا فانسحبت من بينهم بهدوء ودون وداع ..!!