تحركات في الشارع لتغيير قواعد الاشتباك

هل يفلح الرئيس التونسي بتجاوز عقبات «الجمهورية الثالثة» ؟

 

 

بعد تفاعلات واحتقانات اكتنفت الشارع التونسي خمسة أشهر جراء غياب خارطة الطريق لما بعد التدابير الاستثنائية التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد وأطاحت بالبرلمان والحكومة وجمَّدت بعض مواد الدستور، ظهر الرئيس سعيد قبل أيام بخارطة طريق بدت مستوعبة جذور المشكلة التونسية، لكنها حملت بالمقابل نذر انفجار بتوجهاتها العلنية لتغيير منظومة الحكم، في مهمة تبدو شاقة ومعقدة، في ظل غياب الاجماع الوطني ومخاوف تصدع البناء الديموقراطي الهش الذي تشكَّل في تونس بعد الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي.

تحليل / أبو بكر عبدالله

في خطابه الأخير للشعب التونسي تحدث الرئيس قيس سعيّد، بمرارة عن فترة حكمه السابقة منذ انتخابه رئيسا للجمهورية تحت مظلة الهيمنة الشاملة لحركة النهضة الإسلامية، واتهم خصومه السياسيين بتقويض الدولة من الداخل والفساد وتلقي الأموال من الخارج، معلنا خارطة طريق لإصلاحات دستورية وقانونية لم تخف أهدافها في إزاحة القوى السياسية الممسكة بمفاصل الحكم، وسط انقسام في الشارع بين من رآها تدابير ضرورية لطي صفحة عشر سنوات من الإخفاقات، ومن رآها انقلابا على الدستور وسعيا حثيثا للانفراد بالسلطة.
وتضمنت خارطة الرئيس سعيّد، قرارات بتجميد البرلمان إلى حين تنظيم انتخابات جديدة في ديسمبر 2022م، وتنظيم استشارة شعبية عبر المنصات الإلكترونية بالتزامن مع استشارات مباشرة مع الشعب خلال الفترة من يناير ـ مارس المقبل، عبر لجنة ستتولى التأليف بين المقترحات تستمر حتى نهاية يوليو القادم، قبل عرض مشاريع الإصلاحات الدستورية والقانونية للاستفتاء العام يوم 25 يوليو، ناهيك عن وضع مرسوم خاص يتعلق بالصلح الجزائي، ومحاكمة المتهمين بقضايا الفساد، وسط مواقف إقليمية ودولية راوحت بين الترحيب والتحفظ.
والخارطة المعلنة كانت متوقعة من ناحية توجهاتها لتفكيك المنظومة السياسية التي أفرزها دستور 2014م، وكذلك في توجهاتها لتكرس النظام الرئاسي الذي طالما تطلع الرئيس سعيّد إليه منذ فوزه الساحق في انتخابات 2019م بعد أن سجلت التجربة التونسية في ظل الدستور الحالي الذي يفصل بين سلطات الرئاسات الثلاث (البرلمان والحكومة والرئاسة)، إخفاقات سياسية واقتصادية كبيرة وضعت التجربة الديموقراطية الناشئة في تونس في قلب انفجار وشيك.
ورغم سلامة الإجراءات التي حملتها خارطة الطريق من الناحية الدستورية وعدالة مطالبها في إصلاحات دستورية وقانونية تناسب التركيبية السياسية والثقافية للمجتمع التونسي، فإن المثير للقلق فيها هو تجاهلها مخاطر إزاحة المكونات السياسية وخصوصا حركة النهضة بعدما قرر الرئيس سعيّد جعل الإصلاحات في عهدة الشعب التونسي .
وأكثر من ذلك أنها وسَّعت رقعة الخصوم السياسيين للرئيس، بعد رفض الرئيس سعيّد ضمنيا خيار البديل الثالث الذي أعلنه الاتحاد التونسي للشغل، والذي يعتبر من أكبر الكيانات النقابية المؤثرة في المشهد التونسي ولديه القدرة على تحريك الشارع، ما يجعل الآليات الانفرادية التي اختارها قيس سعيّد لتنفيذ خارطة الطريق مهدَّدة بالفشل.
الدستور والنظام الانتخابي
جاء إعلان الرئيس سعيّد تجميد البرلمان استجابة للنص الدستوري الذي يمنع الرئيس من حله في الظروف الاستثنائية، غير أن القرار من الناحية السياسية كان معادلا لحله، في حين يمكن اعتبار قرارات سعيّد السابقة تجميد العمل ببعض مواد الدستور ثم تشكيل لجنة لإدارة مشروع الاستشارات الشعبية للتعديلات الدستورية والقانونية تعليقا غير معلن لدستور 2014م بمقابل تنظيم مؤقت للسلطات، بتدابير تتيح إصدار التشريعات بمراسيم رئاسية، حتى نهاية العام 2022م.
وكان يمكن القول إن إجراءات الرئيس سعيّد طبيعية وفقا لصلاحياته الدستورية، لو أنها تمت تحت مظلة المحكمة الدستورية التي رفض سابقا المصادقة على قانون تشكيلها، إذ أن وجود هذه المحكمة كان سيضمن طرفاً قانونياً محايداً لتأويل النصوص الدستورية والقانونية، كما سيضمن القيام بدور الحارس حيال أي تجاوزات للرئيس ضمن صلاحيات المادة 80 من الدستور التي استند إليها سعيّد في تدابيره الاستثنائية.
وتمنح المادة 80 من الدستور التونسي الرئيس صلاحية الإجراءات الاستثنائية لمدة شهر « في حال وجود خطر داهم مهدَّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذَّر معه السير العادي لشؤون الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتّمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية»، كما أنها حددت لذلك شروطا تقضي ببقاء البرلمان بحالة انعقاد دائم ومنع الرئيس من حل البرلمان خلال فترة الإجراءات الاستثنائية.
وثمة مؤشرات عدة ترجح أن هذا التأييد ربما يتضاءل في ظل انقسام الشارع التونسي حيال خارطة الطريق بين تيار سياسي محدود مؤيد يمثله التيار الديموقراطي وحركة الشعب ويراها إجراءات ضرورية لبناء الدولة، وتيار معارض أوسع تنخرط فيه بعض قوى اليسار التونسي يراها انقلابا على الدستور والحياة البرلمانية يمثله اليوم حزب النهضة وحراك تونس وائتلاف الكرامة وقلب تونس ومبادرة “مواطنون ضد الانقلاب، والجمعية التونسية للقانون الدستوري وحركة توانسة من أجل الديموقراطية وغيرها من المبادرات الشعبية المستقلة أو المحسوبة على تيارات سياسية.
جميع هذه التيارات أعلنت رفضها الإجراءات الرئاسية وبدأت عمليا خطوات تصعيد لتغيير قواعد الاشتباك السياسي مع الرئيس من خلال تحريك الشارع عبر مظلة كبيرة يمثلها اللقاء الوطني للإنقاذ المشكَّل حديثا، بالتوازي مع إعلانهم عدم المشاركة في أي إجراءات تخص الاستفتاء الالكتروني المزمع تنظيمه بشأن الدستور وقانون الانتخابات.
ولا يتوقع أن تنجح هذه الأطراف في تحريك الشارع بالمستوى الذي تأمله، إذ أنها فشلت سابقا في ذلك نتيجة فقدان ثقة الشارع التونسي بالأحزاب السياسية وتحميله إياها مسؤولية الإخفاقات السياسية والاقتصادية، غير أن التغيير الذي يتوقع أن يطرأ على خارطة التأييد للرئيس قيس سعيّد، قد ينعكس على زيادة شعبية التيارات السياسية المعارضة، ما قد يربك الجدول الزمني المحدد لخارطة الطريق وربما يجهضها قبل أن تكتمل.
والثابت في المعادلة التونسية أن التأييد الذي حظي به الرئيس سعيّد سابقا، نتج عن حالة الغضب لدى قطاع واسع من التونسيين الساخطين من دوامة الصراع السياسي وسوء الحكم الذي انعكس بقوة على حياتهم المعيشية المتدهورة، وهو تعبير واقعي تماما لردود الفعل الشائعة في العديد من حالات الأزمات المشابهة، غير أنه يبقى مع تغير المعطيات مساراً محفوفاً بالمخاطر ونادرا ما ينتهي بصورة إيجابية.
ولا يمكن إغفال أن إجراءات الرئيس سعيّد حظيت بتأييد واسع لكونها مثلت ضربة قاصمة لتيار الإسلام السياسي ممثلا بحركة النهضة، سيما وهي أفصحت عن توجهات جدية لتفكيك سلاسلها العنقودية التي تغلغلت خلال عشر سنوات في كل مفاصل الإدارات والوزارات بعد أن كانت تسلحت بمواد دستورية وقانونية عتيدة جعلت منها الدولة العميقة المتحكمة بمفاصل السلطة والقرار، ما جعل قطاعاً واسعاً من الشارع التونسي يحمِّلها المسؤولية المباشرة عما آلت إليه أوضاعه الاقتصادية والمعيشية المتدهورة.
غير أنه مع سياسة الإقصاء ولغة التخوين التي ظهرت للعلن بقوة في ظل هذه الوضعية المعقدة، تبرز تهديدات كبيرة وفي المقدمة الانقسام السياسي، ما يجعل الحد من هذه الإجراءات مصلحة ذات أولوية للحفاظ على النسيج الاجتماعي موحَّدا، وتغليب مبدأ الشراكة السياسية، خصوصا بعد أن أثبتت حركة النهضة خلافا لكل نظيراتها العربية أنها مدنية وذات نهج تصالحي بتمسكها بالنضال السلمي والحوار لإعادة الحياة البرلمانية دون اللجوء إلى العنف.
حاجات ملحة
يصعب توقع إن كانت الرئاسة التونسية ونخبتها السياسية قادرة فعلا على إنتاج دستور وتشريعات جديدة تحظى بالقبول العام، في حال لم تكن القوى السياسية الفاعلة في الساحة التونسية ولا سيما قوى اليسار شريكا أساسيا في صياغتها.
ذلك أن إقصاءها سيؤدي إلى انقسام سيعمل بالضرورة على تغذية مشاعر الاستياء والإحباط والشك لدى الشارع.
والأسوأ من ذلك أن فترة السنة التي تفصل التونسيين عن تنظيم الانتخابات البرلمانية ستكون كافية لإنتاج مشهد شديد التأزم قد ينهك القوى السياسية لمصلحة الجماعات المتطرفة، فحاملو الجنسية التونسية لا يزالون يمثلون رقما مهما في التنظيمات الإرهابية بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما أن الاستغراق في التجاذبات السياسية والمناكفات الشعبوية بأفق مسدود سيزيد من حدة الأزمات الاقتصادية وقد تتحول فجأة إلى حامل لأجيال جديدة من التنظيمات الإرهابية، قد تذهب بتونس وتجربتها الديموقراطية الناشئة نحو المجهول.
ووفقا لذلك فإن المرجح أن يواجه الرئيس سعيّد مأزقا حقيقيا في حال لم يتخذ خطوات تعزز الشراكة وتقلص سياسية الإقصاء ولغة التخوين وتحافظ على سقف أمن للإجماع الوطني، فأكثر ما تحتاجه تونس اليوم هو تعزيز الثقة لدى الشارع بقدرة نخبة السياسية على إنتاج توافقات وتجاوز المنعطفات الصعبة، خصوصا أن استمرار حالة الصراع والانقسام ستلقى بظلال كثيفة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية قد تزيدها تفاقما.
ومن جهة ثانية يتعين على الرئاسة التونسية تفهُّم المخاوف الشعبية والسياسية على المناخ الديمواقرطي الهش ومكاسب المجتمع المدني، وعليها أن تعمل بأفق وطني وخطاب تصالحي يمكنه إقناع الشارع التونسي بكل أطيافه بثمار الإصلاحات وتجنب أي سياسات قد تفضي إلى تصفية الحسابات أو توسع الفجوة مع قوى المعارضة، فالاستقرار السياسي الداخلي يعد اليوم مطلبا ملحا، وسواه يعني تشظياً سياسياً سيقود تونس حتما إلى المجهول.

قد يعجبك ايضا