الثورة.. وحاجتها إلى التظاهر الفكري

عبدالرحمن مراد

 

 

قيل أن ملوك فارس كانوا يتواصون بمثل هذه الوصايا، كما وردت في كتب الأخبار وبعض كتب التاريخ القديم :
” يا بني .. لا تأمن غفلة اثنين: الزمان والناس، سكون الدهر استجماع للوثوب، وهدوء الناس استعداد للخروج، إذا سكنت الدهماء سقط الوزراء ” .
وفي تعليق للبردوني يقول : هذا النوع من الوصايا القديمة يدلنا على أن الجماهير الشعبية يقظة المراقبة على الحكام، وإذا هدأتها حالات، هيجتها حالات ” .
ويقول أيضا : ” لأن الزمان حركة فهو تبدل، ولأن التبدل تطور وزيادة فمفروض على الخلف التفوق على السلف، لأنه يملك تجارب من قبله وخصائصه الذاتية”.
وفي أبسط تعريف للثورة هو القول : إن الثورة هدم .. لبناء ما هو أصح وأجمل .. لأن الثورة إنهاء كل سيئ، وبناء كل عظيم على أساس عظيم، ولنا في سالف أيامنا من التجارب ما يغني ويمنع من الوقوع في الخطأ نفسه .
وفي مثل هذه الأيام تتعدد الاحتفالات الشكلية، ويبلغ التمجيد مبالغ لا يفترض له بلوغها لأنها تسير على ذات النهج الذي كان في سالف أيامنا فأفسد ما هو كائن، حتى خرجت الجماهير في يومها المشهود فسالت الدماء واضطربت الأحوال، وفسد النظام العام والطبيعي في حياة الشعوب، فوجد المستعمر نفسه يدير معركة وجوده معنا، ونحن في غفلة تائهون لا نعرف من أمرنا سوى عبارات التفرقة والضياع، وسلوك التوحش والغابية في التعامل مع بعضنا بعضا، فشاعت لغة التضليل، وتعددت عصابات النهب والسرقات في الطرقات، وظهرت الحرابة، وتفشى القتل في الشوارع والطرقات، فالمرء قد يقتل لمجرد القتل أو بسبب خلاف بسيط على وسائل التواصل الاجتماعي، حدث مثل ذلك في شوارع صنعاء على شكل ظواهر غير دائمة، وهو يحدث وبشكل دائم ويومي في عدن وتعز، وفي الجنوب اليمني على وجه العموم، ومثل ذلك يضعنا أمام سؤال اللحظة الثورية التي يفترض بها أن تتجاوز فكرة الحشد الجماهيري إلى فكرة النقد والتقييم والبناء، فالجماهير التي خرجت ترفض واقعا تريد اليوم واقعا أصح وأجمل، ولذلك فالتظاهر أصبح عتابا جماهيريا أكثر منه تأييدا وشعارا، وهي تنشد أحلامها من بين الكلمات، فالحلم حين يصبح فكرة، والفكرة حين تصبح مشروعا، وقتئذ تصبح هناك ثورة، أما التظاهر فهو جرس إنذار لا بد أن نسمعه جيدا، ونعتبر من قصص التاريخ ومن وصايا أرباب الدول الذين كابدوا الحياة وساسوا الجماهير، فلم تكن الغفلة إلا جرسا يعزف ملامح الزمن وتغيره وتبدله.
الموضوع وفق قانون التاريخ يسير وفق سنن الله الذي وضعها للكون ولا يكاد يتجاوزه، وسنن الله لها معايير ثابتة في كل حقب التاريخ، وتتلخص في الحق، والعدل، وعمومية الخير، ولذلك حين تأمل أحد المفكرين في صفحات التاريخ وفي عبره، قال : إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويمحو الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، معيارية واضحة في البقاء والاستمرار، وسنن كونية، ومعايير ربانية لا عوج فيها ولا أمتى، فالفكرة في سنن الله واضحة، والفكرة في قانون التاريخ واضحة، وحاجتنا إلى الحرية، والى التجرد من الأنا المضللة في هذه المرحلة ضرورة حتى نبلغ الغايات، أما فكرة : “لا أريكم إلا ما أرى “، فقد تحدث القرآن وقال إنها فكرة تهلك ولا تبني، وقد كانت الدلالة واضحة في السياق النصي للقرآن، ورموز النص وإشاراته ودلالته الضمنية والتاريخية أكثر وضوحا، ولذلك نحن مطالبون اليوم بالتمعن في أنين الجراح، وفي كلمات أرباب العقول، بل مطالبون باستنفار الكلمات وإطلاقها من حناجرها، فالكبت ليس ظاهرة محمودة في كل الأحوال .
فالثورة اليوم تصل عامها السابع ولم تعد تحتاج خروجا مشرفا بل تحتاج أفكارا حياتية مشرفة، تحتاج تظاهرات فكرية، وندوات نقدية، وإصلاحات ومقترحات واستراتيجيات، وبرامج ومبادرات اجتماعية، تحتاج وعيا يتسق ومفردات الحرية والاستقلال في أبعادهما الدلالية .. الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، تحتاج فلسفة تتسق وتطلعات الجماهير وأحلامها، تحتاج تنظيما واعيا متنامي الأبعاد والأطراف، تحتاج مساواة وعدلا بين الجهات والمؤسسات وعموم الناس وليس تمايزا، تحتاج تفعيلا للمؤسسات ووفاء بالوعود وبالتصريحات، لا نكوصا واستهلاكا إعلاميا، هناك من التجارب ما يغني ويمنع، فلا نقع في خطأ كنا نراه خطأً ولا نراه اليوم كذلك وقد وقعنا في خيوطه العنكبوتية .
وحتى نصل إلى مراتب النجاح لابد أن نصغي للآخر، نصغي لفكره ولرؤيته ولفلسفته، فنضع الكل في ميزان العقل، وميزان المنطق السليم، ومن ثم في ميزان المصلحة المرسلة للوطن، بعيدا عن الأنا التي تضلل دائما وتفرض شروطا قد تكون قاتلة، كما نرى ذلك في القصص والعبر حين نتأملها في القرآن الكريم وفي التاريخ أو في تاريخ المراحل القريبة .
نحن اليوم على محك التجارب وليس من المستحسن الإطراء للحدث وتمجيده، فالإطراء تضليل وضياع، وقد رأينا في ماضينا القريب كم هو ممقوت، ولكنا نحتاج اليوم إلى التواصي بالحق وفق منهجية القرآن التي أسهب في بيانها وتوضيحها السيد عبدالملك الحوثي قائد الثورة في واحدة من محاضراته، هذا التواصي هو السبيل للنجاح إذا كانت كلماتنا صادقة لا تشوبها من أنانيات الحياة ومصالحها شائبة، فهي ستكون كالشجرة المثمرة الباسقة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أما الكلمات الخبيثة فلن يطول بها الأمد حتى تحترق في تجارب التفاعل اليومي، فالنفاق تزلف وفساد، وفطرة الله لا تقبله، فالله لا يحب عمل المفسدين، ولذلك يفضحهم مهما طال بهم الأمد، فالله يمهل ولكنه لا يهمل .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) 94 سورة النساء .

قد يعجبك ايضا