خليل المعلمي

الدور الثقافي في ترسيخ وتحقيق الوحدة اليمنية

 

 

تطل علينا الذكرى الـ31 للوحدة اليمنية، حيث حقق الشعب منجزه التاريخي والعظيم في الـ 22 من مايو من العام 1990م، بعد نضال دؤوب لعقود طويلة، ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب والإمامة في الشمال واللذين كانا حجر عثرة أمام توحيد البلاد، وظل الهدف الأسمى بعد نجاح ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين حتى تحقق هذا اليوم المشهود.
وللثقافة دور في إحداث التغيير المنشود لمستقبل هذه الأمة، ولهذا تسعى مختلف دول العالم إلى الاهتمام بهذه القضية والتركيز عليها لبناء جيل متسلِّح بالوعي والفكر والثقافة.
وفي بلادنا قبل الوحدة كان للثقافة دور في التسريع بقيام الوحدة نتيجة الوعي الكامل لدى شعبنا اليمني في الشمال، وقد سعت دولتا شطري اليمن “الشمال والجنوب” منذ السبعينيات من القرن الماضي للتوجه نحو الاهتمام والتركيز على المسألة الثقافية والإعلان عن إصدار المجلة الثقافية الحديثة شكلاً ومضموناً، وبدون تنسيق ووعي مسبق بدأت حالة التنافس المحموم بين هذه المجلات في كلا الشطرين.
فالشعب اليمني يطمح إلى التقدم ومواكبة ثقافة العصر والتطور العلمي والتقني المتسارع الذي يشير إلى أنه لا مكان فيه للواقفين عند حدود تعطيل العقل وتنحية الفكر عن الحياة وطريقه في ذلك التوأمة بين الثقافة والتعليم في أسلوب تكاملي لتحقيق التنمية المستدامة.
وهناك أمثلة كثيرة على التواصل الثقافي بين أبناء اليمن الواحد أثناء فترة الاستعمار في جنوب الوطن والحكم الإمامي في شماله، والتي تدل على مدى الوعي الثقافي الحاضر لدى اليمنيين بمختلف فئاتهم الاجتماعية والفكرية.
وما سنورده خلال هذه المادة يبيِّن لنا مدى التواصل الثقافي بين أبناء الوطن الواحد والجهود التي بذلت من قبلهم في نشر التعليم والثقافة في أي مكان يطأه اليمني سواء في عدن أو في صنعاء أو في تعز أو في حضرموت أو في غيرها من المدن اليمنية.. خاصة بعد أن حاول الاستعمار تجهيل الشعب اليمني ولم يكن هدفه إلا الاستغلال الاقتصادي للبلاد التي يحتلها.
وكان اليمني في تلك الفترات يشعر بعجزه إزاء تحرير بلاده فلا يستطيع أن يطالب بحقه أو أن يحرر أرضه أو يطرد المحتلين.. فكان عاجزاً عن كل ذلك، مقيداً بأغلال الطرق البدائية والأساليب العتيقة في التعليم..
وحينما شعر اليمنيون بواجب التفكير الجدِّي في نشر الثقافة في البلاد قاموا بفتح المدارس الابتدائية بجهود بعض الأفراد أو بمبادرات جماهيرية لتمكين الأطفال من معرفة المواد الأولية مثل القراءة والكتابة والحساب، ومن بين المدن التي ضمت بين جنباتها اليمنيين من جميع المناطق اليمنية مدينة عدن التي غدت مركزاً هاماً ومدينة يتوافد إليها اليمنيون لطلب الرزق، فبدأت المدارس في عدن تخرِّج المتعلمين، وبدأت الثقافة تنتشر وبدأ الوعي يعم أفراد الشعب وبدأوا يشعرون بأهمية العلم وبدأوا يهتمون بتوسيع مداركهم وتطوير أنفسهم.
وبدأ المثقفون اليمنيون في عدن يؤسسون النوادي الاجتماعية والثقافية فقام البعض منهم بتأسيس النادي العربي عام 1944م، وأخذ النادي يزدهر وأخذ بعض أعضائه يهتمون بالقراءة وبالذات قراءة الصحف ومراسلتها والكتابة فيها عن عدن وما يجري فيها من أحداث، وبعد اتساع نطاق هذه النوادي وانتشارها كانت تتم الزيارات الميدانية بين أعضائها أسبوعياً، وقد لعبت تلك النوادي دوراً في تشجيع الثقافة العامة بين مجموع الشعب عن طريق المجلات والكتب والمعارض وغيرها، ونشط أفرادها في إصدار الجرائد والمجلات الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية.
وبفعل ذلك انتشرت الصحف بشكل واسع وكان من أبرز كتَّابها عبدالله باذيب ومحمد سعيد جرادة وادريس أحمد حنبلة ونجيب جعفر أمان، إضافة إلى كل من محمد عبده غانم وعلي لقمان وعبدالله هادي سبيت وغيرهم من الشعراء الوافدين إلى عدن أمثال القاضي الزبيري وزيد الموشكي وذلك قبل العام 1948م.
كما أنه بفعل هذا التوسع في ازدياد الصحف وإقبال الناس على قراءتها ومع انتشار المدارس أيضاً وانتشار الأندية، نشطت الحياة الأدبية والثقافية والفكرية نشاطاً واسعاً مما خلق لدى المواطن وعياً ثقافياً وسياسياً ووطنياً كان له عظيم الأثر في مجرى الأحداث فيما بعد.
يقول البردوني في كتابه “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” وهو يتحدث عن الأحوال الثقافية دون تمييز بين ما هو شمالي أو جنوبي يتحدث عن الثقافة في اليمن ووضعها وحالها، وفي سياق حديثه عن العام 1971م، يقول: كان العام 1971م عام العطاء لأنه أخصب مواسمنا الأدبية نزلت فيه ثمار القلم اليمني إلى المكتبات بغزارة غير معهودة، بالنسبة إلى اليمن في هذا العام نزلت أول مجموعة لمحمد سعيد جرادة بعنوان “مشاعل على الدرب”، ومجموعة شعرية لعبدالله الملاحي بعنوان “ثورة الحرمان” ومجموعة قصصية لمحمد عبدالولي بعنوان “شيء اسمه الحنين” ومجموعة لعبده عثمان بعنوان “فلسطين في السجن”.. ثم مجموعة للشاعرين عبده عثمان وعبدالعزيز المقالح بعنوان “مارب يتكلم” ومسرحية محمد الشرفي “حريق في صنعاء” ومسرحية أرض الجنتين ومجموعة “أغنيات على الطريق الطويل” ثم كتاب “اليمن الخضراء مهد الحضارة” لمحمد علي الأكوع الحوالي، وعادت مجلة الجيش في شكل جديد ومضمون جديد فقد توسعت في مجال تخصصها العسكري وأصبحت مجلة ثقافية تضيف الثقافة العسكرية إلى الثقافة العامة.
كما تحدث الأديب والشاعر عبدالله البردوني أيضاً عن مجموعة من الشعراء اليمنيين والذين كان لهم دور كبير في إثراء الثقافة داخل أبناء المجتمع ولم يفرق بين شعراء الوطن الواحد فقد تحدث عن الكثير من الشعراء اليمنيين أمثال الزبيري ومحمد سعيد جرادة ومحمد عبده غانم ولطفي جعفر أمان وعلي عبدالعزيز نصر والقرشي عبدالرحيم سلام وعبده عثمان وعبدالعزيز المقالح وعلي بن علي صبره ومحمد الشرفي وسعيد الشيباني ويوسف الشحاري وأدريس حنبله، فلم يقم الأستاذ البردوني بالتمييز بين هؤلاء الشعراء الذين اعتبرهم من الشعراء المجددين وعلى أيديهم بدأت نهضة اليمن وكانت دعواتهم دائماً إلى كل جديد في الثقافة والعلم والأدب.
إن ظهور ظاهرة “البريد الأدبي” والتي كتب عنها الدكتور سيد مصطفى سالم بل وألَّف عنها كتاباً سماه “البريد الأدبي” واتبعه بعبارة حلقة مفقودة من حركة التنوير في اليمن، يعتبر دراسة توثيقية لحركة التنوير في اليمن عبر البريد الأدبي الذي يجسِّد ظاهرة معينة حملت هذا الاسم وعبَّرت عن جهد أدبي خاص خلال فترة تاريخية معينة والتي تم نشرها في عدد من الصحف والمجلات التي كانت تنشر خلال تلك الفترة.
ويصنِّف الدكتور سيد مصطفى سالم حركات التنوير في اليمن إلى عدة مراحل من أهمها مرحلة الرسائل التي استطاع نشرها بعض المستنيرين في مجلة الحكمة اليمانية التي صدرت أعدادها الثمانية والعشرين خلال الفترة من -1938 1941م، وكذا المقالات التي نشرت على صفحات مجلة “صوت اليمن” التي أصدرها الأستاذان أحمد محمد نعمان ومحمد محمود الزبيري في عدن عام 1946م واستمرت في الظهور حتى قيام ثورة 1948م.
ومما لا شك فيه أن هذه الحلقات كانت تكمل بعضها البعض لأنها نتاج مرحلة تاريخية واحدة (1918 – 1948م) وخضعت لظروف سياسية ومؤثرات فكرية واحدة، لذلك كوَّنت الحلقات في مجموعها تياراً فكرياً صاحب النشاط السياسي الذي برز في تلك الفترة بأشكال مختلفة.
وظاهرة البريد الأدبي ليست مجلة بالشكل الملموس المتعارف عليه وإن اطلق عليه أصحابه هذه التسمية، لكنه مجموعة رسائل تبادلها بعض الأصدقاء فيما بينهم لعرض آرائهم وأفكارهم حول موضوعات عامة وغلب عليها الجانب الأدبي.
ولهذا كان لهذه الظاهرة دورها في نشر الثقافة وتبادل الآراء والأفكار بين الأدباء والمثقفين في مختلف المدن اليمنية من صنعاء إلى ذمار وتعز وعدن وغيرها من المدن.
وأدى بهؤلاء المثقفين إلى المشاركة في الكتابة في مجلتي “فتاة الجزيرة” و”صوت اليمن” اللتين كانتا تصدران في عدن في الاربعينيات من القرن الماضي.
ومما ساعد على نشر الثقافة بين أوساط الشباب والمتعلمين في تلك الفترة انتشار الكتب التي كان يتم ادخالها عبر الأسر الكبيرة ذات المناصب العالية، فكانت منفذاً من المنافذ الأساسية لدخول الكتب والمجلات الحديثة إلى اليمن، وذلك بحكم مواردها وقدراتها المادية على اقتناء الكتب وعلى الاشتراك في المجلات الصادرة في البلاد العربية وخاصة مصر والشام والعراق وبحكم سعة اتصالاتها ومعارفها في داخل البلاد وخارجها.
كما أن عودة البعثات التعليمية اليمنية من العراق وسوريا ومصر قام أفرادها بإدخال العديد من الكتب الأدبية والعلمية والثقافية فلجأوا إلى بيعها أو إهدائها أو إعارتها ليعملوا على نشر الثقافة بين أوساط المجتمع وخاصة منهم الشباب.
وكان لتلك العوامل وللوضع الذي كان يعيشه اليمن في تلك الفترة الدور الفعال في رفع الوعي الثقافي الوطني بين أوساط المتعلمين والمثقفين في طول البلاد وعرضها سواء في الشمال أو في الجنوب..
ومن كل ما سبق نجد أن الثقافة الواحدة لأبناء اليمن على الرغم من تنوعها إلا أنها تصب في ثقافة واحدة وهي حب الوطن والدفاع عنه والمشاركة في تحريره من الجهل والمرض والفقر ومن أتون التسلط.. وحتى بعد انتصار الثورتين المجيدتين سبتمبر وأكتوبر فقد صار المثقفون على نفس النهج في إثراء الثقافة العامة وتوطيدها ونشر ثقافة الحوار والتسامح وذلك عبر العديد من البرامج المنظمة والمكثفة وانتشار حرية الرأي والرأي الآخر.
وبالتالي فإنه بفعل ذلك انتشرت وتجذرت ثقافة “الوحدة” في نفوس اليمنيين وتعمق إيمانهم بها أكثر وأكثر فكان أن تحقق حلم جميع اليمنيين في الثاني والعشرين من مايو في العام 1990م فكان ميلاد عهد جديد.. وبطرق سلمية توحي بأن الشعب اليمني قد فاق من سباته الذي كان يراد له في العهود السابقة أن يظل يعشعش في عقولهم مدى الدهر.
ومع العهد الجديد عهد الثاني والعشرين من مايو أتيحت للجميع حرية الرأي والكلمة وحرية الثقافة وحرية الفكر وازداد وعي المواطنين بكل ما هو جديد وكل ما هو حديث من تبادل للأفكار والسعي للإصلاح عبر أسس علمية ووطنية.. فكان هو العصر الحديث لليمن الواحد.
فقد كانت الوحدة اليمنية تمثل مطلباً لكل جماهير الشعب اليمني منذ عهد الاحتلال البريطاني، وحتى في وجود دولتي الشطرين، ويتمثل دور المثقف في وقتنا الحاضر في الوقوف ضد من يصوغون للانفصال ويعملون عليه، من أجل خدمة الدوائر المخابراتية التي تريد شرذمة وتفتيت الأمة، كما أنه علينا أن نستلهم نضال من سبقونا من المناضلين، منذ عهد عمالقة الوحدة والمناضلين من أجلها مثل: عمر الجاوي، ويحيى العرشي، وثابت، وغيرهم ممن كانوا يحملون مشاعل التوحد والائتلاف، وعلى المثقف أن يشكل بكتاباته وموقفه درعا حصينا للوحدة اليمنية، وان يسخِّر قلمه وفكره من أجل دحر الأصوات النشاز التي تظهر اليوم.
ومن هنا فإن المثقف المنتمي للشخصية الثقافية الوطنية ينطلق في وعيه الفكري المستمد من الواقع حاملاً معه أسس الدفاع عن الثقافة الوطنية ليستخدمها كسلاح في وجه مختلف التحديات التي تواجهها، ومن هذا المنطلق لا بد أن يتجه الأدباء والمثقفون في وطننا الحبيب إلى الدفاع عن الوطن ووحدته أرضاً وإنساناً، ومن الضروري أن يضع المثقف على رأس جدول اهتمامه ونضاله الربط بين تحقيق الأمن والاستقرار والوحدة في سياق ثقافة وطنية تستند إلى النضال بالكلمة وبكل الطرق والأساليب في اتجاه بلوغ الغايات والأهداف العظيمة للوطن.
إن وطننا الغالي يستحق منا الكثير في هذه الظروف الصعبة، وربما قليل من الوعي كاف لتحريك الركود وإعادة المهابة للوطن من خلال اجتراح الأفكار الإنسانية الكبرى كالتسامح والتعايش والمواطنة والعمل على تجفيف ينابيع الثأرات والحقد والاحتراب ونبذ كل ثقافة تعمل على تعميق الاختلاف والتنازع والكراهية والاهتمام بالأجيال الجديدة في المدارس والجامعات وتغذية عقولهم بالمعرفة الصادقة التي تعزز فكرة للتكامل والتعاضد باتجاهات البناء والتشييد والنأي بهم عن كل الوسائط والوسائل التي تعنى باستهداف الهوية وبث الأفكار العدمية واللا مجدية.
وحالياً يأتي دور الثقافة والمثقفين في تفعيل جهودهم بما من شأنه تذويب الخلافات بين فرقاء السياسة وأن يمارسوا دور المقرِّب لوجهات النظر بينهم من خلال رسائلهم الإبداعية المختلفة التي تحظى باحترام وقبول في أوساط مختلف الشرائح الاجتماعية، وذلك باعتبار اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين أول كيان وحدوي تأسس في السبعينيات قبل قيام الوحدة بعقدين، والذي أسهم في تشكيل جبهة وطنية للدفاع عن الوحدة وتحصينها والحفاظ عليها وتنظيم الفعاليات والأنشطة الثقافية والأدبية التي تصب في هذا الجانب، باعتبار ذلك هو الدور المنوط بهذه الشريحة المجتمعية المستنيرة التي تسهم في رفع مستوى وعي وإدراك المجتمع والرقي به نحو الأفضل في مختلف المجالات وخصوصا ذات الصلة بالولاء والانتماء للوطن وثوابته ومكتسباته وفي مقدمتها الوحدة الوطنية، وحدة الأرض والإنسان.

قد يعجبك ايضا