"كريتر" فوهة البركان التي ردّت الاعتبار للعروبة المجروحة بعد هزيمة 67

20 يونيو.. ذكرى انتفاضة أسقطت دُرّة التاج البريطاني”مستعمرة عدن” بعد 129 عاماً من الاحتلال

البداية كانت في معسكر صلاح الدين.. ومعسكر البوليس المسلح الساحة الرئيسية
شهدت عدن 84 عملية فدائية ضد أهداف ومصالح بريطانية خلال عام 1966
“همفري تريفليان” المندوب السامي الذي أوكلت إليه مهمة انسحاب بريطانيا بدون “كارثة”
إيقاف الضباط الأربعة أدخل المستعمر في الجحيم وعجَّل بالرحيل
مقتل 23 جندياً بريطانياً وجرح العشرات وفرار العديد منهم تاركين أسلحتهم

مثَّلت انتفاضة 20 يونيو في كريتر (فوهة البركان)، صفحة رائعة في تاريخ النضال الوطني والكفاح المسلح ضد المحتل البريطاني، تاريخ مجيد سرَّع بعجلة الكفاح الثوري نحو الاستقلال.
لقد مثَّلت انتفاضة 20 يونيو، ملحمة يمنية عربية كانت أولى ثمراتها الإيجابية رفع الهامات المنتكسة بعد النكسة على المستوى القومي العربي والإسلامي، لترد الاعتبار للعروبة المجروحة بعد نكسة حزيران 1967 .
وبفضل هذه الانتفاضة سقطت درة التاج البريطاني (مستعمرة عدن) من ذلك التاج لتكون أحد عوامل انحسار الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بعد مائة وتسعة وعشرين عاماً من السقوط في قبضة الاستعمار الاجنبي .
الثورة / محمد شرف

تزايدت حدة المواجهات بين ثوار الجبهتين “القومية والتحرير ” من طرف وقوات الاحتلال البريطاني، وقد أخفقت كل وسائل الإحتلال واجراءاته القمعية في كبح جماح إرادة الثوار في التحرير والاستقلال.
وقد كان من بين تلك الإجراءات مضاعفة أعداد قواته في عدن وتوحيد أجهزة المخابرات بعد أن نجح الثور في إضعاف فاعلية تلك الأجهزة من خلال استهداف ضباط وعملاء المخابرات، كما عملت سلطات الاحتلال على تقسيم عدن إلى أربعة محاور عسكرية هي : المنطقة الغربية ـ التواهي والقلوعة ـ والمنطقة الوسطى ـ المعلا ـ والمنطقة الشرقية ـ كريتر وخورمكسرـ ثم المنطقة الشمالية التي ضمت الشيخ عثمان والمنصورة وتم توزيع القوات البريطانية في عدن وفقا لذلك التقسيم.
كما عمل الإعلان البريطاني في “ورقة الدفاع البيضاء” في 22 فبراير 1966م والمتضمن التأكيد على أن بريطانيا ستنسحب من الجنوب عام 1968م، على رفع حماس الثوار وارتفاع وتيرة العمليات العسكرية والفدائية ضد قوات الاحتلال.
وبحسب التقارير البريطانية شهدت عدن وحدها 480 عملية فدائية ضد أهداف ومصالح بريطانية خلال عام 1966م.
وفي شهر مايو 1967م بدأت القوات البريطانية عملية إجلاء المدنيين والأسر البريطانية كما بدأت عبر ميناء عدن ترحيل أجزاء من مكونات القاعدة البريطانية ومستودعاتها تمهيداً للانسحاب الكامل والمقرر في عام 1968م.
وتم في نفس الفترة تعيين مندوب سامي جديد حيث تم استبدال ” ريتشارد ترينبول ” بآخر هو ” همفري تريفليان ” الذي حددت له مهمة ترتيب انسحاب بريطانيا من دون ” كارثة “.
ومع ولوج العام 67 كانت قبضات السلاطين في ولاياتهم تضعف أكثر فأكثر وكانت شعبيتهم تتآكل لصالح الثوار والاستقلال ووحدة الجنوب اليمني كمقدمة للوحدة اليمنية الشاملة.
أصبح الاتحاد بلا قوة فعلية وانقسمت عناصر الجيش والأمن التابعة للاتحاد بين ولاءاتها القبلية وولاء قطاع كبير منهما للثورة بعد انخراط عدد متزايد من جنود وضباط الجيش والبوليس في العمليات الفدائية ضد القوات البريطانية وتهريب الأسلحة للفدائيين.
لذلك عملت سلطات الاحتلال على إعادة ترتيب أوضاع الجيش الاتحادي كي يصبح قادراً على ” تسلم زمام الأمور ” بعد الانسحاب البريطاني المقرر عام 1968م وفي الأول من يونيو 1967م صدر قرار السلطات البريطانية بإنشاء ” جيش الجنوب العربي ” من خلال توحيد خمس كتائب من جيش الاتحاد النظامي وأربع كتائب من الحرس الاتحادي وأوكلت مهمة الإشراف إلى الضابط البريطاني ” داي ” وعين العميد ناصر بن بريك العولقي قائداً للجيش بينما توزعت المناصب الرئيسية الأخرى بصورة لم تقنع ضباط الجيش الجديد، فكان ذلك بمثابة إضافة جديدة للتوتر الحاصل في الجنوب بأسره بصورة عامة وفي صفوف الجيش بصورة خاصة.
وعلى إثر ذلك تقدم عدد من كبار ضباط الجيش بمذكرة إلى المجلس الأعلى لحكومة الاتحاد والمندوب السامي البريطاني، عبروا فيها عن عدم ارتياحهم للأوضاع في الجيش وقدموا عدداً من المطالب التي رأوا أنها ستعمل على تعزيز الانضباط والوحدة في صفوف الجيش.
وأثناء هذا الزخم والتلاحم الشعبي في النضال ضد الاستعمار الأجنبي، حدث زلزال الخامس من يونيو 1967م وتلقت الجيوش العربية في مصر وسوريا والأردن هزيمة منكرة على يد الجيش الإسرائيلي الذي استطاع احتلال أراض واسعة في كل من مصر وسوريا والأردن وبسط سيطرته على كامل المدينة المقدسة (القدس).

“كريتر” تُرد الاعتبار للعروبة المجروحة بعد هزيمة 67
وبدلا من أن تسبب هذه الهزيمة حالة من الانكسار والتراخي وفقدان الثقة بالنفس في صفوف المناضلين العرب، إلا أن المرارة التي شعرت بها وعاشتها الجماهير كانت دافعا للصمود والتحدي.
ولم يكن الشعب اليمني في جنوب الوطن استثناء في ذلك؛ فقد كان الإحساس الشعبي بأن بريطانيا حليفة لإسرائيل وما أبداه جنود الاحتلال من شماتة إزاء هزيمة العرب وزهوهم بالانتصار الإسرائيلي، دافعا للفدائيين لتشديد الضربات ضد المستعمر لرد الاعتبار للعروبة المجروحة وللقومية العربية.
تأتي عظمة انتفاضة 20 يونيو كونها حصلت بعد نكسة حزيران 1967م والتي استطاع خلالها الكيان الصهيوني هزيمة الجيوش العربية، حيث أصيبت الشعوب العربية وقتها ومن بينها شعب جنوب اليمن بخيبة أمل وانتكاسة شديدة، وفي المقابل نشأ لدى الإنجليز بعد تلك النكسة اعتقاد بإمكانية القضاء على الحركة الوطنية وإعادة ترتيب الأوضاع في عدن والمحميات بالاتفاق مع العناصر الموالية لهم وبما يتناسب مع مصالح الاحتلال، فجاءت انتفاضة 20 يونيو لتبدد تصورات بريطانيا وعملائها وآمالهم في إخماد الثورة.

كريتر.. “فوهة البركان”.. ميلاد انتفاضة 20 يونيو
في هذا الجو المشحون بالتوتر كان من الطبيعي أن يؤدي أبسط احتكاك إلى إشعال حرائق، وكانت بداية الأحداث عندما قامت الحكومة الاتحادية بإيقاف أربعة ضباط من الذين وقعوا مذكرة المطالب التي رفعت إلى المجلس الأعلى لحكومة الاتحاد والى المندوب السامي في
14 / 6 / 1967م.
وكان أبرز الموقوفين كل من العقيد حيدر بن صالح الهبيلي والعقيد حسين عثمان عشال، وكان ذلك الموقف يعبر عن جهل وعدم إدراك لحجم الاستياء والنقمة لدى أفراد الجيش والشرطة العرب.
وعند تسرب قرار التوقيف قررت قيادة الجيش والأمن وبالتنسيق مع الجبهة القومية (ذات التأثير الكبير في أوساط ضباط الجيش والأمن) قبول التحدي واستباق القرار عبر القيام بحركة تمرد بداية الدوام الأسبوعي أي السبت 20 يونيو 1967م.
لكن ارتفاع حدة التوتر أدى إلى تفجر المواجهة يوم الجمعة 19 يونيو أثناء محاولة ضباط وجنود معسكر (فقم) في البريقة الاستيلاء على المعسكر لكن القوات البريطانية نجحت في وأد التمرد والسيطرة على الموقف.
وفي نفس اليوم أعلن وزير الخارجية البريطانية من لندن سياسة حكومته القاضية بتحديد تاريخ الاستقلال وكذلك توفير دعم جوي من حاملات الطائرات البريطانية الراسية قرب شواطئ المنطقة للحكومة الاتحادية بعد الاستقلال.
وبدلا من أن تكون تلك رسالة تطمين تساهم في تهدئة الأوضاع المتوترة، ساهمت من حيث لا يرغب مرسلوها، في تفاقم وتعقيد الموقف، وزادت من إصرار الجبهة القومية وعناصرها في الجيش والأمن بضرورة أخذ زمام المبادرة والسير في مشوار التحدي والمجابهة إلى نهايته من خلال تصعيد الخلاف حول الضباط الموقوفين خاصة بعد أن أصبح من المؤكد سعي قوات الاحتلال وعملائها لتصفية خلايا الجبهة القومية المتغلغلة في صفوف الجيش والأمن.

تسلسل الأحداث للانتفاضة الباسلة
وفقا للباحث عثمان ناصر علي؛ فقد تسلسلت أحداث انتفاضة كريتر على النحو الآتي: في يوم 20 يونيو 1967م، كانت معسكرات الأمن والجيش التالية ساحة اندلاع الانتفاضة الباسلة: معسكر صلاح الدين (في البريقة)، معسكر ليك (الشهيد عبدالقوي)، ومدينة الاتحاد (مدينة الشعب)، ومعسكر شامبيون (النصر)، ومعسكر البوليس المسلح (20 يونيو)، وإن كان المعسكر الأخير هو الساحة الرئيسية لهذه الانتفاضة.
كانت البداية في معسكر صلاح الدين في منطقة البريقة، ففي الصباح الباكر وفي تمام الخامسة فجراً اقتحم ضباط وأفراد الكتيبة العاشرة بقيادة المقدم احمد صالح بن لحمر مستودع الأسلحة واستولوا على ما فيه وسيطروا على المعسكر وأعلنوا تمردهم.
في السادسة صباحاً قام الضباط والأفراد والمتدربون في معسكر ليك (عبدالقوي) بمنع السيارات من نقل الموظفين الإداريين إلى أعمالهم في المعسكرات الأخرى، ثم تصاعد الشغب حيث قاموا بمداهمة مقر فرقة موسيقى الجيش وحطموا معدات وآلات الفرقة ثم هاجموا نادي الضباط وأشعلوا فيه النيران واحتلوا غرفة الحراسة واطلقوا سراح المسجونين وقاموا باحتلال المعسكر وإطلاق النار وإحراق بعض المباني.
حوالي التاسعة امتد الهيجان إلى معسكر شامبيون (النصر) في خورمكسر، حيث قام رجال الأمن بقيادة قائد المعسكر العقيد علي بن أحمد العبدلي بتحطيم أبواب مخازن السلاح واستولوا على الأسلحة والذخيرة وتمركزوا فوق البنايات وعلى سور المعسكر وقاموا بإطلاق النار على الدوريات البريطانية الواقعة بين معسكر النصر ومعسكر ردفان فقتلوا وأصابوا (15) جنديآ بريطانيآ. إثر ذلك تقدمت قوة بريطانية نحو معسكر النصر من جهة المطار لاقتحامه وإعادة السيطرة عليه، فاُطلقت عليها النيران وتوقفت واكتفت بحصار المعسكر من جهة المطار.
وفي حوالي العاشرة قامت كتيبة الأمن المتمركزة في مدينة الاتحاد (الشعب) بقيادة المقدم محمد حسين الجنيدي باحتلال مبنى السكرتارية العامة الذي يضم معظم الوزارات العامة، كما احتلوا مقر المعتمد البريطاني في مدينة الاتحاد ومزقوا الأعلام البريطانية وحطموا زجاج بعض النوافذ.
وفي معسكر البوليس المسلح (20 يونيو) علم أفراد المعسكر بأن القوات البريطانية تهاجم زملاءهم في معسكر النصر، وللتأكد من ما يحدث كلف المناضل عبدالله سالم العوسجي – وهو أحد القياديين الرئيسيين للمجال التنظيمي للجبهة القومية في البوليس المسلح وأحد العناصر المنخرطة في القطاع الفدائي، اثنين من العناصر لاستطلاع الأمور عن قرب، وهما الملازم ثاني عبدالله محمد الدباني وجندي سائق محمد صالح، وعند وصول سيارتهما إلى أمام معسكر النصر (شامبيون) أطلقت القوات البريطانية عليهما النار استشهد الاثنان على الفور، وكانت الساعة حينها حوالي الحادية عشرة ظهرا، ولما علم زملائهما في معسكر (20 يونيو) باستشهاد الاثنين دعت القيادة التنظيمية في المعسكر والتي كان من رموزها كل من عبدالله سالم العوسجي وسالم محمد باهرمز وآخرين جنود وضباط المعسكر إلى التسلح لمواجهة قوات الاحتلال والانتقام للمذابح التي تنفذها القوات البريطانية ضد جنود الجيش والأمن الجنوبيين في مختلف المعسكرات، وبعد الاستيلاء على المعسكر اتصل المتمردون بقائد أمن عدن العقيد عبدالهادي شهاب الذي حضر وابلغهم بضرورة ضبط النفس وعدم التهور والاحتفاظ بالذخيرة والامتناع عن اطلاق النار بلا مبرر، ووجههم بضرورة الانتشار على أسطح البنايات المقابلة للمعسكر.
وما إن اتخذ الجنود مواقعهم حتى تقدمت سيارتا جيب دورية بريطانية باتجاه المعسكر على شارع الملكة أروى وكانت الساعة حينها حوالي الثانية عشرة ظهرا، وبلا أدنى تردد هاجمها جنود المعسكر فقتلوا ثمانية جنود بريطانيين فيما أصيب واحد تمكن من الاختباء في مدخل إحدى العمارات. وعلى دوي اطلاق النار أمام معسكر البوليس المسلح تقدمت سيارتان أخريان من موقع تجمع القوات البريطانية قرب المحكمة على الطريق البحري وأطلقت عليهما النيران كذلك فترجل ضابط وثلاثة جنود للاحتماء بمحطة البترول الواقعة أمام المعسكر، بينما عاد البقية لطلب النجدة، لكن الرصاص لاحق الضابط والجنود الثلاثة فقتلوا جميعآ.
ونظرا لهذه الخسائر دفع البريطانيون في الثانية عشرة والنصف بمدرعة عسكرية وسيارتا جيب محملة بالجنود، لكن كثافة النيران من قبل جنود المعسكر المتمركزين على اسطح البنايات وخلف المتارس التي تم إعدادها للجنود البريطانيين الواقفين على برج المصفحة أرغم الطابور البريطاني على التراجع، كما حاولت طائرة هيلوكبتر التحليق فوق منطقة الاشتباك إلا أن النيران اطلقت عليها من المعسكر ومن أسطح العمارات وأصيبت إصابة مباشرة فسقطت على جبل شمسان.
عند هذا الحد قررت القيادة البريطانية حشد قوة كبيرة معززة للهجوم على كريتر، فبدأت بتجميع قوات على محورين، الأول: العقبة على طريق المعلا، والثاني: الخليج الأمامي على طريق خورمكسر، وخلال توقف الاشتباكات أبلغ المواطنون قيادة المعسكر بوجود الجندي البريطاني الجريح المختبئ في مدخل إحدى العمارات المقابلة للمعسكر.
وفي هذا الموقف تجلت القدرات القيادية والخبرة والحنكة للعقيد عبدالهادي شهاب مدير أمن عدن الذي لازم جنود المعسكر منذ لحظات التمرد الأولى، فقد قرر استغلال الموقف إلى أقصى حد ممكن، فطلب من خمسة جنود لبس ملابس مدنية (معاوز ومشاد) ليظهروا كأنهم من الفدائيين مع أسلحتهم، وأبقى خمسة آخرين بالزي العسكري وطلب من الذين يلبسون الملابس المدنية أن يتصرفوا وكأنهم يريدون قتل الجندي البريطاني، بينما يقوم العسكريون بالدفاع عنه وحمايته، وهكذا انطلت الحيلة على الجندي البريطاني المرعوب فأبلغ قيادته أن الذين يقاتلون هم الفدائيين، بينما يحمي الجنود المدينة والمواطنون، وفعلآ تم تأجيل الهجوم البريطاني الذي كان مقررآ لاقتحام المدينة واكتفى البريطانيون بمحاصرتها. واتصلت القيادة البريطانية بالعقيد عبدالهادي شهاب طالبة منه اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية المؤسسات والمرافق في المدينة، كما طلبوا سرعة سحب جثث الجنود البريطانيين القتلى، فأبلغهم العقيد شهاب بضرورة وقف إطلاق النار كي يتمكن جنود الأمن من سحب الجثث ونقلها.
كانت تلك ساعات ضرورية لكي يتمكن المتمردون من تنظيم أنفسهم وكي تتمكن قيادة المعسكر والمجال التنظيمي للجبهة القومية من تقييم الموقف وتحديد سبل التصرف.
وبينما كانت الاشتباكات بين الجنود المتمردين والقوات البريطانية تشتعل في كل المعسكرات في عدن تحركت الكتيبة الرابعة المتمركزة في العند باتجاه عدن بقيادة المقدم سالم عبدالله المحلائي، وقد دخلت فعلا مدينة الحوطة في لحج والجنود يطلقون النار في الهواء كتعبير عن إصرارهم على الدخول إلى عدن لمساندة الانتفاضة الوطنية هناك.
وعلى خط مواز كانت تدور أحداث أخرى مرتبطة بالحدث الرئيسي، ففي حوالي الساعة الثانية عشرة ظهرا استقبل العقيد حيدر بن صالح الهبيلي رئيس أركان جيش الاتحاد (الموقوف عن العمل) في منزله في مدينة الاتحاد كلاً من: وزير الدفاع فضل بن علي العبدلي ووزير الأمن صالح بن حسين العوذلي ووكيل وزارة الأمن المستر ديلي الذين أبلغوه بما آلت إليه الأوضاع وكما أبلغوه انه قد صدر قرار بعودة الضباط الموقوفين إلى العمل وأن الخبر سيذاع عبر الإذاعة وطلبوا منه إبلاغ الضباط بذلك والتدخل لوقف حدوث المزيد من تدهور الأوضاع، وكان ذلك فعلآ ما يقلق الضباط الموقوفين خاصة أن القوات البريطانية قد بدأت باتخاذ أوضاع وإجراءات توحي بنيتها استخدام اقصى درجات القوة لإخضاع المعسكرات والجنود المتمردين ما سيؤدي الى سقوط الكثير من الضحايا ويلحق دمارا كبيرا بالمدينة.
وبالفعل اتصل الهبيلي بالعقيد عشال وشرح له الموقف واتفقا على الاتصال بكل من العقيد محمد سعيد شنظور والعقيد أحمد محمد عرب وتوجهوا جميعأ إلى معسكر النصر اولآ حيث تم اللقاء بجنود المعسكر بقيادة العقيد علي بن أحمد العبدلي وطلبوا منهم الهدوء وإعادة الأسلحة إلى المستودع، وأكدوا لهم تراجع القيادة البريطانية عن قرار توقيف الضباط الاربعة. فاستجاب جميع الافراد.
ثم توجه القادة الأربعة إلى الجانب الآخر من معسكر النصر الواقع جهة المطار حيث مواقع القوات البريطانية وطلبوا منهم الانسحاب كذلك فنفذوا الأمر، وفور إعادة الهدوء إلى معسكر النصر توجه القادة الأربعة إلى دارسعد لمنع الكتيبة الرابعة التي يقودها المقدم سالم عبدالله المحلائي والقادمة من معسكر العند من دخول عدن لأن القوات البريطانية قد استعدت لمواجهتها ومنعها من دخول عدن عند نقطة دارسعد وهو ما يعني تعرض الكتيبة لخسائر كبيرة وربما إبادتها على يد القوات البريطانية التي وضعت في حالة توتر قصوى بسبب الخسائر التي لحقت بها خلال الصدامات في ذلك اليوم، وفعلا استطاع الضباط الأربعة الالتقاء بطابور الكتيبة الرابعة على الطريق عند نقطة بئر ناصر الواقعة بين دار سعد والحوطة، وهناك اجتمعوا بهم وأوضحوا لهم مخاطر الإصرار على دخول عدن في هذا الظرف، وأنه لا داعي لإعطاء القوات البريطانية المتأهبة في دارسعد ذريعة الاصطدام بالكتيبة، وقد اقتنع ضباط وجنود الكتيبة واستداروا عائدين الى معسكرهم في العند.
وبينما الضباط الأربعة عائدين إلى منازلهم في مدينة الاتحاد التقوا بكل من المعتمد البريطاني ووزير الدفاع ووزير الأمن على البوابة فأبلغوهم بما حدث في مدينة كريتر وقتل الجنود البريطانيين وإسقاط طائرة هيلوكبتر وعن مسؤولية مقاتلين مدنيين وعناصر من شرطة عدن عن ذلك، وأن قيادة الجيش البريطاني قد كلفت لواء مشاة مدعم بالمصفحات للدخول بالقوة الى كريتر لإخراج جثث القتلى البريطانيين مهما كان الثمن ومهما كان الدمار الذي سيلحق بالمدينة.
عند ذلك قرر الضباط التوجه إلى كريتر والدخول إليها عبر طريق العقبة، وهناك قابلوا قائد اللواء البريطاني مع قواته وهم في حالة غضب شديد، فأبلغوه انهم سيدخلون إلى كريتر لوقف إطلاق النار وسحب جثث القتلى الانجليز، لكن عليه بالمقابل تأجيل عملية اقتحام المدينة حتى يتم التفاهم مع القيادة العسكرية البريطانية، وكانت الساعة قد بلغت السادسة مساء تقريبآ عندما دخلوا مدينة كريتر عبر العقبة، وبعد تجاوز قمتها وبدأوا بالنزول من الجهة الأخرى لاحظوا وجود الفدائيين بملابسهم المدنية كتفاً بكتف بجوار جنود المعسكر يصدون هجمات القوات البريطانية لاستعادة المدينة، وعندما تعرف عليهم الثوار حيوهم بإطلاق النار في الهواء.
بعد وصولهم إلى معسكر البوليس المسلح (20 يونيو) التقى الضباط بقيادة المعسكر وعلى رأسهم العقيد عبدالهادي شهاب مدير امن عدن وقائد المعسكر فضل رامي وطالبوهم بضرورة الانضباط والاسراع بتسليم القتلى الانجليز للقوات البريطانية فتم وضعهم على سيارة نقل عسكرية وسلموا إلى موقع القوات البريطانية على الطريق البحري (الخليج الأمامي) وقد تجاوزت الساعة السادسة مساء بقليل.
وبموازاة هذين الخطين كان هناك خط ثالث للأحداث يتحرك بقوة وسرعة للاستفادة من ما يحدث وتحقيق نصر سياسي غير مسبوق في مسيرة الثورة المسلحة في الجنوب المحتل، فقد التحمت عناصر القطاع الفدائي المتواجدون في عدن عند اندلاع الأحداث مع إخوانهم من جنود وضباط الجيش والأمن والذين كان عدد كبير منهم يشكلون الجزء الرئيسي لهذا القطاع إلى جانب المنخرطين من المدنيين، لكن مساهمة القطاع الفدائي في الجبهة القومية لم تنحصر على قيادة وعناصر المجال التنظيمي في الجيش والأمن بل تعداه إلى القيادة السياسية والعسكرية بأهم وأبرز رموزها.
فمنذ اللحظات الأولى التحقت مجموعة من الفدائيين المتواجدين في كريتر بالمتمردين في المعسكر واشتركوا معهم في صد محاولات القوات البريطانية استعادة السيطرة على الموقف، وكان على رأس هؤلاء الشهيد عبدالنبي مدرم، ثم تعززت المشاركة بصورة حاسمة مع وصول القائد الشهيد سالم ربيع علي المسؤول العسكري للجبهة القومية يرافقه عدد من العناصر القيادية والفدائيين الذين اتخذوا من مركز شرطة الاطفاء الواقع خلف معسكر البوليس المسلح مقرآ لهم، وشرع سالمين فورآ بالتنسيق مع المجال العسكري للمعسكر لتأمين الوضع وضمان السيطرة على المعسكر وعلى المدينة بأسرها من خلال الانتشار في المواقع المشرفة على الخليج الامامي والطريق البحري لقطع الطريق على القوات البريطانية لأن هدف المواجهة لم يعد حماية المعسكر بل السيطرة على كريتر نفسها.
لقد شعرت القيادة السياسية العليا في الجبهة القومية بأهمية ما يحدث، لذلك تحرك القائد الشهيد فيصل عبد اللطيف الشعبي من منطقة المعلا الى كريتر حيث وصل إلى منزل يعرفه في كريتر وطالما زاره وفيه اجتمع بعناصر قيادية وكان ذلك المنزل هو منزل المناضل سالم محمد باهرمز والواقع ضمن المنازل المدنية المحاذية للمعسكر، وتم إرسال من يستدعي صاحب المنزل الذي كان منشغلآ بالأحداث الدائرة، فحضر على عجل ليفاجأ بوجود قائد الثورة شخصيآ في منزله، وكانت الساعة حينها قد قاربت الخامسة بعد الظهر، وبعد الاحاطة السريعة بالموقف اصدر القائد فيصل عبداللطيف توجيهآ بضرورة عقد لقاء سريع لقيادات المجالات المتواجدة والمعنية بالاحداث لاتخاذ الاجراءات اللازمة للحفاظ على المدينة والسيطرة عليها أطول فترة ممكنة.
وهكذا ظهرت القطاعات الجماهيرية والشعبية في الواجهة وتولت المناضلة نجوى مكاوي وعناصر القطاع الجماهيري مهمة دعم المقاتلين وتموينهم بالمياه والاغذية بعد قطع المياه عن المدينة ونقل الاسر المتواجدة قرب مواقع الاشتباكات إلى أماكن آمنة، وهي الاجراءات التي مكنت الثوار من السيطرة على مدينة كريتر لمدة (18) يومآ رغم الحصار البريطاني.
في المعركة قتل 23 من جنود الاحتلال البريطاني، والعشرات من الجرحى، بينما فر البقية من ساحة المعركة، وتركوا أسلحتهم، ليخلد اليوم العشرون بعدها يوماً للشرطة في جنوب البلاد قبل الوحدة، تذكيراً ببطولات الفدائيين وبسالتهم التي أفشلت فرق القوات البريطانية المتخصصة التي استخدمت كل الأسلحة بما فيها الطيران.

قد يعجبك ايضا