فلسفة الاحتفال بالمولد النبوي ..

أحمد يحيى الديلمي

ليلة اليوم الخميس 12 ربيع الأول 1442هـ الموافق 29 أكتوبر 2020م حلقت في سماء صنعاء عاصمة اليمن التاريخية وكل المدن اليمنية صرخات اليمنيين عالية واختلطت بأضواء الكهرباء المبهرة لكي تضع علامات صادقة تؤكد على الإيمان بالله وحب الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، واليوم هاهم اليمنيون يجتمعون في الساحات بالملايين من كل الفئات العمرية والاتجاهات السياسية لتتعالى أصواتهم بالصلوات على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فتلتحم قطرات الرذاذ المنبعثة من الحناجر مع أجواء الخير المحلقة في السماء لتشكل لوحات فنية عميقة الدلالة هدفها الأول إيقاظ العالم من سباته العميق وإخراج الضمائر البشرية من الغفلة الطويلة وحالات الغياب والموت السريري من الأشخاص والدول على أمل إحداث صحوة مباغتة للعرب والمسلمين تُذكرهم بماضيهم التليد وتجعلهم يستدعون الماضي بصفحاته المشرقة ليأخذوا من حياة الرسول العبر العظيمة فيُحلق كل مسلم بعقله وخياله مع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليعيش تلك المشاهد الخالدة ويتذكر صفات النبي الكريم الخليقة بالاهتمام والإطراء من حيث أخلاقه الحميدة وتفانيه وشجاعته ورباطة جأشه وصبره على المكاره والأذى من أقرب الناس إليه وتجسيده لصفة المثل الأعلى في السلوك والحياة وهي لوحات جميلة تعطي كل شخص ما يبتغيه، فالمجاهد يمكن أن يستعيد من عبقرية الرسول العسكرية النادرة صفة الصمود والإصرار على النصر فيقاتل بإرادة إيمانية ، كما حدث للرسول الأعظم الذي واجه أعتى عتاولة قريش بذلك الصمود والتحدي ، لم تهن عزيمته ، ولم تتزعزع عقيدته ، ولم يفت في عضده شيء ، بل ازداد إيماناً ورسوخاً ، وتأصلت فيه السجايا العظيمة لترسم للعالم صفات الحياة النبيلة ..
وأمام الأسير والمعتقل والمختطف والمحاصر فرصة عظيمة بأن يتعظ من ذلك الحصار الجائر الذي عاناه الرسول في شِعْب بني هاشم ، وما ناله مع أصحابه من حرمان وجوع وفاقة وتعذيب ، إنها صفات عظيمة يجد لها كل إنسان ما يُغنيه وما يعزز دوره في الحياة ، فالقاضي الذي يقضي بين الناس يمكن أن يأخذ من صفات الرسول ميله الغريزي للعدل واتصافه بالنزاهة ورفضه للظلم وإصراره على إنصاف المظلوم وترفعه عن مغريات الدنيا وجهره بالحق ، وعدم انصياعه لنزغات الشيطان ، فيحكم بمعنويات عالية وإرادة فولاذية مبعثها الثقة الكبيرة بالنفس والحب الصادق لله وللرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل من يفقد شهيداً في ساحة التصدي والصمود يمكنه أن يستعيد مشهد حزن الرسول الكريم في معركة أحد بعد استشهاد بطل الله الغالب سيد الشهداء عمه حمزة عليه السلام ، فرغم الحزن الكبير الذي تعاظم في نفسه عندما رأى جسد عمه الشهيد ممثلاً به وأجزاءه المقطعة من قبل آكلة الأكباد ومن زوجها أبي سفيان الذي تعمد أن يغرز سهمه في وجنة الشهيد اليُمنى والاتكاء عليه حتى نفذ إلى الوجنة الأخرى ، مع ذلك ورغم حزن الرسول الكبير إلا أنه لم يغرق في موجات الحزن، وسرعان ما استعاد زمام المبادرة وحث أصحابه على الجهاد وامتشاق السيوف من أغمادها لاستكمال الدعوة .
إنها صور عظيمة لا بد أن نستفيد منها خاصة في هذا الزمن ، زمن التشوهات النفسية والانحطاط الأخلاقي والانسحاق المهين تحت شهوة التسلط ونعال المال المدنس ، وهذه هي أهم الصفات التي تجعلنا نعظم الرسول في كل لحظة من حياتنا وهي بكل معانيها العظيمة تدحض بشدة كل ما يروجه الجُهّال وأشباههم ممن يدعون احتكار الحقيقة ويعتبرون أنفسهم مخولين بتمثيل الدين والدفاع عنه كأعظم افتراءات كاذبة لا يزالون يجترونها من تلك الصحراء المقفرة المغرقة في ضلال الجاهلية ، لم يدركوا عظمة سجايا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والتضحيات التي قدمها حتى غدت الصحراء مسكونة بصهيل الخيل ورغاء الإبل ، لأنه بحكمته العميقة وبساطته وشعوره المرهف تحلى بأعظم الصفات والأخلاق الحميدة وسعة الأفق ، فسابق الزمن حتى رسخ الإسلام في أعماق الأرض والقرآن في صدور المسلمين ، فأكسبهم إرادة التحدي والسير إلى المستقبل بما يؤكد أن الرسول روض البشر والصحراء والخيول الجامحة في زمن قياسي بصدق إيمانه وقوة بأسه وحول المنهج إلى قيم وسلوك حاكم لحياة المسلمين اليومية ، وهو ما مكنهم بعد ذلك من الصمود واجتياح القفار والصحارى وافتتاح المدن واحدة تلو الأخرى حتى عم الإسلام مشارق الأرض ومغاربها ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام العدل وتصدى لأساطين قريش وعتاولة الظلم والجبروت في ذلك الزمن المظلم ، فجاهد في الله عز وجل حق الجهاد حتى أتاه اليقين ، فكيف لا نحتفل بهذا اليوم العظيم ونحن في اليمن عادة نحتفل بالرسول في كل لحظة من لحظات حياتنا وفي كل صلاة إذ حولنا حتى الأعراس والمناسبات واللقاءات إلى حلقات للذكر والصلاة والسلام على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم .
وكم أتمنى أن أولئك الذين يخالفون هذا الموقف من أصحاب العاطفة الساذجة من يرغبون بالمال والمكانة ويغترون بأوهام وخيالات الكثرة والقوة أن يتعظوا بمواقف الرسول ويتمثلوا سلوكه في حياتهم لكي يعودوا من تلك الانزلاقات البائسة التي قادتهم إلى مراتع الخيانة والعمالة والارتزاق وهم اليوم بأمس الحاجة إلى علاج نفسي لمعرفة حجم الخطيئة التي اقترفوها في حق الدين والشعب والوطن ، وهذا العلاج يكمن في قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعقل ومنطق لكي يتغلب صوت الإيمان على صوت النفاق والذل ، ولينظروا إلى الواقع بمنطقية لامتلاك الإرادة كي تتحجم مشاعر الانسياق إلى التبعية المهينة للآخرين ويدركوا خطورة التنكر للرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، علهم يتمسكون بمنهجه القويم وهذه هي إحدى فلسفات تعظيم الرسول في مهرجانات حية ، وهي امتداد لتلك الثقافة المتجذرة في نفوس اليمنيين منذ مئات السنين ، التي اعتادوا عليها كما قلنا في كل لحظة من حياتهم ، يصلّون على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس الصلاة البتراء التي حذر منها وإنما الصلاة الإبراهيمية الكاملة التي تُرضي الله سبحانه وتعالى ويسعد بها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الذي سعى لخير المسلمين كل المسلمين ، لذلك يُحبه كل مسلم صادق الإيمان ويحتفل بمولده كأقل واجب تجاه هذا النبي العظيم ، وسيظل هذا ديدنُنا إلى أن نواجه الخالق سبحانه وتعالى وترتقي أرواحنا إلى مقامه العالي آمنين مطمئنين بالفوز والنجاة إن شاء الله .. والله من وراء القصد ..

قد يعجبك ايضا