“حركة الملايين”.. كتاب يغوص في أعماق المدن العملاقة ونشأتها وتطورها

 

خليل المعلمي

تعيش مدننا العربية حالة مزرية نتيجة لغياب التخطيط السليم وعدم وضع استراتيجية مستقبلية في التطوير خاصة مع التوسع السريع لهذه المدن عمرانيا وزيادة عدد السكان وينتج عن ذلك عشوائية في التخطيط، بل وظهور عشوائيات على أطراف هذه المدن يصعب حلها فيما بعد عندما يتم إعادة تخطيط هذه المدن بطريقة حديثة.
يومياً يتحرك داخل هذه المدن الملايين من البشر، في بضعة كيلومترات مربعة، وهي بذلك بحاجة إلى استراتيجية في النقل والتنقل، وقوانين تنظم هذه الحركة، وكذا استراتيجيات لتطوير هذه المدن عند توسعها بل وإنشاء مدن أخرى لمجابهة النمو المتزايد في هذه المدن.
أصبحت المدن هي البوتقة التي تتفاعل فيها كل الأنشطة الإنسانية والمجتمعية، وباتت المحرك الفاعل للاقتصاد والمجتمع، بل باتت المؤشر الدقيق للتفاعل الحضري والمدني للنمو والتطور أو ربما العكس فتكون ركاماً للتخلف والتراجع.
ومن خلال ذلك نستعرض كتاب “حركة الملايين” من تأليف الدكتور ف.ماركو والذي يقودنا فيه إلى أعماق المدن العملاقة ونشأتها وتطورها وعدد من القضايا التي تتعلق بالسكان والتنمية المستدامة في هذه المدن، وخلص إلى عدد من الاستنتاجات تؤكد ضرورة الدفع باستراتيجيات لتطوير المدن العملاقة وتحقيق التنمية المستدامة.
الخيارات المتاحة
لقد استغرق إعداد الكتاب عدة سنوات وبعد خبرة للمؤلف توزعت ما بين أربع منظمات في أربع مناطق مختلفة من العالم، يطرح المؤلف الخيارات المتاحة للإدارة لمواجهة تحديات الاستدامة ومضامينها، ويقول: إن هذا الكتاب يتعامل مع الأفكار من خلال عدة مجالات ولم يكن قط كتاباً مقرراً في الاقتصاد أو في نظم النقل وعملياته وتقنياته ولم يكن مرجعاً في الإبداع المالي أو التعاقدات ولا حتى في استراتيجيات التنمية الاقتصادية وإنما هدفه يتمثل في مساعدة الإدارات المحلية والحكومية لفهم كيفية تفعيل هذه المجالات، وما هي التفاعلات فيما بينها من أجل تقييم أهمية التفكير بصيغة التشكيلة الشاملة للسياسات التي توضع كمزيج متكامل، أظهرت الخبرة أن السياسات الناجحة التي توازن الحركة والاستدامة هي تلك التي تأخذ بالحسبان الدقيق أنماط الحركة واحتياجاتها والقدرات المؤسسة وتوصيفاً دقيقاً للعلاقة بين البشر والسيارات، كل هذا ضمن معطيات بشرية ومالية وتنظيمية ومؤسسية وقدرات تكنولوجية ضمن الإقليم الحضري.
تعريف المدن
تضمن الكتاب ثمانية فصول في 268 صفحة تناول الفصل الأول تعريف المدن الكبيرة العملاقة والتي تعد ظاهرة حديثة ترافقت مع النمو الكبير الذي يشهده العالم من تجمعات سكانية أطلق عليها المدن الكبيرة والتي تعد من أول التحديات التي تواجهها التنمية المستدامة في العالم في القرن الحادي والعشرين وقد مثل هذا العامل الأهم المؤثر على الاقتصاد والنقل والبيئة وموارد المجتمع وإداراته.
إن هذا النمط من التشغيل للمدن الكبيرة يعد ظاهرة لم تعرفه البشرية فقد بلغ عدد المدن الكبيرة ما يقرب من 400 مدينة في العالم، علما أن المدينة الكبيرة تلك التي يزيد عدد سكانها على مليون نسمة ومن ضمن هذه المدن الكبيرة هناك مدن كبيرة جداً هي ما يطلق عليها المدن العملاقة، وثلثا هذه المدن يقع ضمن العالم النامي.
وتكمن التحديات في إدارة هذه المدن العملاقة لاسيما في مجالات النقل، السكن والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين.
يعرض الكتاب مقومات السياسة العامة الاقتصادية والبيئية المحاطة بنظام البنية التحتية، فكيف يمكن للمدن العملاقة هذه أن تتعامل مع كل هذه المعطيات لاسيما ما يخص البنية التحتية وعلى رأسها النقل ولا ننسى دور النقل الكبير في النمو الاقتصادي والرفاهية وغيرها من المعطيات الاقتصادية والاجتماعية.
غياب الاستدامة
يشخص المؤلف أعراض غياب الاستدامة في نظام النقل فلقد كان للعولمة والمدنية وشيوع ظاهرة السيارات المساهمة في الحالة المريعة لعدد غير قليل من مدن العالم الثالث.
مما دفع المؤسسات البلدية في هذه المدن لحافة الهاوية فكان الازدحام وتلوث الهواء والآثار الصحية السلبية، كل هذا قاد البنك الدولي لتحديد نسبة الخطر التي تواجه مدن العالم النامي.
ويطرح الكاتب في الفصل الثاني قضية التوجه نحو الاستدامة ليناقش المفاهيم الأساسية لها فيعرض لعدد من التعاريف والمضامين العلمية، ويضع بين يدي القارئ عدداً من الأمثلة تلقي الضوء وتؤشر لحالات معينة وقد ساعد كل هذا في تفسير معظم الجوانب الخاصة بالبيئة ونوعيتها ومساهمتها في التنمية الاقتصادية والنمو والحفاظ على الثروة البيئية للأجيال المستقبلية.
إدارة الموارد
واستعرض المؤلف في الفصل الثالث المداخل لتحقيق تنمية مستدامة وتوفير إطار مفاهيمي لتحقيق ذلك، ويتم التركيز على الاستدامة بوصفها مشكلة إدارة الموارد التي صنفها إلى ثلاثة أصناف، فقد تكون الموارد عاملاً من عوامل الإنتاج، ومنها ما هي خدمات طبيعية وبيئية وأخرى بفائدة متحققة من الطبيعية أو بمثابة المغاسل التي تمتص أو تستوعب المخلفات والتلوث، وقد استنتج الفصل أن العقلانية التي تقف وراء القطاع الخاص في مضمون تلك الاستدامة العالمية والحاجة لرؤية سياسات شاملة وفاعلة يكمن في التكامل كطريقة أفضل، وتطرق إلى نظام المحاسبة البيئي الذي يتناول الصنف الأول من الموارد والتقييم البيئي للصنف الثاني منها، فيما كان الصنف الثالث بمنزلة الرقابة على التلوث والتي تتمثل بطبقة الأوزون في أعالي الجو وقد عرض الكلفة والمساحات المناسبة وانتقد نظرية السوق في الاقتصاد، وعرض المكونات الاقتصادية والاجتماعية والمالية والمؤسسية لاستدامة النقل.
سياسة النقل
وعرض الكاتب سياسة النقل واستدامة البيئة، وبين كيف أن سياسة النقل تمثل سياسة عامة لابد من أن تتوافر بنوعية تسهل عمل الاقتصاد، ولابد من أن تركز على جانب العرض والطلب وفق قاعدة السوق في التسعير والتنظيم، ويعرض المؤلف خيارات تلك السياسة من خلال فهم دور النقل في المجتمع، وعلاقة النقل بكل مورد من الموارد الثلاثة المصنفة مما يؤشر إلى أهمية إدارة النقل والاستخدام الجيد للسيارة وإدارة العرض وإدارة الطلب ووضع الضوابط، لا سيما في استخدام الشارع والبارك واستخدام الأرض واستخدام التكنولوجيا المتطورة.
الشراكة العامة والخاصة
يتحدث المؤلف في الفصل الخامس عن مبدأ الشراكة العامة والخاصة للوصول لمشاريع نقل مستدامة، إنها الشراكة التي يمكن لها أن تساهم في التمويل والتنفيذ لاستراتيجيات الاستدامة، وهنا تمت مناقشة آليات مختلفة لتحقيق تلك الشراكة والتي تمثل إطاراً لعمليات المفاضلة للخدمات وتقييم فاعليتها.
أمثلة ودروس
قدم المؤلف في الفصل السادس أمثلة ودروساً لسياسات النقل في عدد من المدن مثل “سنغافورة” و”واشنطن دي سي” و”سان باولو” وغيرها، فيما ركز الفصل السابع على حالة دراسية عن مدينة (Guangzhou) والتي تقع في الجنوب الشرقي من الصين، تلك المدينة التي يطلق عليها الصينيون البوابة الجنوبية والتي تعد المدينة الأكبر في الصين وقد جمعت هذه المدينة الملايين من الناس من كل أنحاء البلاد وحققت نمواً اقتصادياً كبيراً.
ويعرض المؤلف وضع المدينة وتزايد عدد السكان وتوقعاته وكذلك عدد السيارات وتفاقم نسبة الانبعاثات الملوثة فوضعت الخطط والبرامج والإجراءات ويضع الكاتب أسساً ومبادئ لمتخذ القرار وتتمثل بالشمولية والتعاون والمرونة والتكيف والاطلاع الكامل من خلال المعلومات والتحليل ومعرفة الأدوار والشفافية.
استنتاجات
استعرض المؤلف في الفصل الثامن الاستنتاجات التي خرج بها ومن أهمها أن نجاح الاستراتيجيات لابد من أن ينطلق من مدخل شامل يعتمد المؤسسة المحلية والمعايير الحضارية، وكذلك لابد من تفعيل دور القطاع الخاص، وأن للحكومة الدور الحاسم في تحقيق النجاح، كما أن الاستدامة تتطلب توازن الاعتبارات الاقتصادية مع البيئية، وأن شراكة القطاع الخاص بالعام تعد غاية في الأهمية لمواجهة المخاطر وتحمل الكلف الكبيرة.
تحديات المدينة
وقد أشار المؤلف إلى تحديات المدينة في القرن الحادي والعشرين إذ يقول: إن المدينة يجب أن تكون ذات كفاءة اقتصادياً ومتكاملة اجتماعياً ومسؤولة مالياً، أما بيئيا فلابد من أن تكون المدينة قادرة ذاتياً على حماية بيئتها ومن هنا فإن توافر هذه العناصر هو سر النجاح والبقاء للمدينة، مؤكداً أن المدن أصبحت هي النقاط المركزية لتحديات الاستدامة العالمية، مما يؤشر إلى حاجة المدن لتطبيق معايير الاستدامة وهذا ما أكد عليه العديد من المؤتمرات العالمية وبالتحديد نوعية الحياة في المدينة.

قد يعجبك ايضا