عن دستورية الشرعية الثورية!

عبدالعزيز البغدادي

 

الثورات العربية التي قامت أو أُعلن عن قيامها سُرعان ما انحرفت عن مسارها أو اختُطِفَتْ لتذوب في أحضان بعض عناصر ورموز الأنظمة السابقة ليتحولوا إلى قادة لهذه الثورات رافعين شعارات محاربة الفساد والظلم وهم بين أعتى أدوات الظلم والفساد ، هذه الثورات حولها هؤلاء إلى مهازل كبرى، ففكرة الثورة في ذاتها وفي واقع العرب وتاريخهم مبنية على خطأ تاريخي متوارث، إذ لم يهتم صُنَّاعها بتعريف دقيق للثورة والفرق بينها وبين الفتنة ، فالثورة الحقيقية لها أهداف واضحة ومدروسة وحاضنة شعبية تحميها وتنقلها من طورٍ إلى طورٍ ومن مرحلة إلى أخرى لتحقيق الأهداف ما لم فليست سوى فتنة والفتنة بوابة للموت المفتوح بلا هدف ولا غاية ولا مشروعية متفق عليها وليس لها قاعدة اجتماعية قوية قادرة على تصحيح مسارها يلتزم فيها قياداتها بأفضل السُبل والوسائل لتحقيق الأهداف وآلية محاسبة لإعادتهم إلى جادة الصواب إذا وجَدَتْ فيهم انحرافاً، أي أن الثورات الشعبية تستمد شرعيتها من الشعب تماماً كما هي السلطة حسب القواعد الدستورية والقانونية في العالم، وهذا هو جوهر وأساس الشرعية الدستورية ومن ثم الثورية المستمدة من قاعدة أو مبدأ (الشعب مصدر السلطات جميعاً)، أي أنه صاحب الحق في اختيارها من خلال الانتخاب، وإذا تعذر إجراء انتخابات نزيهة فمن خلال الثورة ولكلتا الحالتين قواعد وأسس وضوابط، أي أن الثورة التي تتوفر فيها شروط شرعية الثورة الناجحة لا بد أن تلتزم بضوابط وشروط ثورية أي في الظروف الاستثنائية لا تقل أهميتها عن أهمية شروط وضوابط ممارسة الشرعية الدستورية في الظروف العادية..
وهناك فارق زمني حاكم بين الشرعتين فالشرعية الثورية وهذه الشرعية الثورية محكومة بالضرورة الثورية لتصحيح المسار الذي أخلت به ممارسات السلطة تعمل في الأساس على تقويم اعوجاجها وانحرافها عن القيام بواجباتها ، والشرعية الثورية شرعية مؤقتة تنتهي بانتهاء الأسباب التي اقتضتها وهي بهذا المعنى شرعية دستورية وإن لم ينص الدستور على تفاصيلها بشكل مباشر فهي في صميم المبادئ الدستورية ضمناً مندمجة كما أسلفنا ضمن حق الشعب في إيجاد السلطات وتغييرها فإذا كان أساس التغيير هو الوسائل السلمية ، فإن الأنظمة الدكتاتورية إذا ما تغوّلَتْ واستحكمت أصبح التغيير السلمي مستحيلاً أو شبه مستحيل ، من هنا كانت الثورة على الظلم في بعض الأديان والأفكار والرؤى والمذاهب جزءاً من نسيجها ، ويقع الإسلام في طليعة الأديان التي تدعو إلى الثورة على الظلم وعدم القبول به ورفضه ، وأساس ذلك والمدخل إليه الحث على الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ورد في الآيات الدالة على ذلك ووفق التدرج المعروف في حمل الرسالة والمسؤولية والقيام بها ، والثورات إن لم تُبنَ على أسس وأهداف واضحة فمن السهل تحويلها إلى ثورات مضادة يصبح فيها رموز الفساد والظلم هم القادة ، الذين يقررون مصيرها أو يشاركون بفعالية في حرف مسارها بعيداً عن الأهداف التي قامت من أجل تحقيقها ، وكل ذلك يتم باسم الشعوب المُغيبة وأي شعبٍ يمكن تغييبه فإن حكمه والعدم سواء !؛
نعم.. لقد أصبحت الشعوب وبخاصة العربية ألعوبة إما بيد الحكام أو مُدعي الثورات، وهذه مُعضلة تقتضي التأمل والمراجعة للذات وللآخر لعلنا نهتدي إلى ما يقربنا من معرفة حقيقية لمعنى الثورة التي تُقربنا بدورها إلى تقوى الله والحرص التام على تحقيق الأهداف التي ضحى في سبيلها الشهداء كي لا تذهب تضحياتهم هباء وتُبعدنا عن الفتنة التي تجعلنا قُرناء للشيطان ومستعدين للتطبيع معه ، ولهذا التطبيع أشكال متعددة أبرزها استسهال التعامل مع الفساد بل والتحالف معه بحجة الضرورات التي تُبيح المحظورات وهي قاعدة إذا أُسيء تطبيقها فإنها تصبح من أخطر القواعد التي تؤدي إلى ضياع الثورات بل وضياع الدين والدنيا معاً !.
بين الضرورة والاحتياج
نخُط خُطانا ونجترح المستحيل
تمضي بنا الأمنيات
إلى حيث يلقي الزمان تباريحه
كي نرى الحُلم بدراً مُنيراً
كُتب المقال في شهر رمضان/1441هـ الموافق مايو/2020م

قد يعجبك ايضا