اللقاح الروسي “Sputnik V”.. هل نحن أمام لعبة سياسية لبوتين؟

 

لا شك أن الخبر الأكثر انتشارا خلال الأيام القليلة الفائتة كان إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صباح 11 أغسطس عن نجاح بلاده في الانتهاء من تطوير أول لقاح معتمد لـ «كوفيد-19″، وأنه لقاح آمن وقد حقّق مناعة مستديمة لدى مَن تلقّوه، ومنهم إحدى ابنتيه، التي تلقّته ولم تُعانِ من أي شيء سوى ارتفاع طفيف في درجات الحرارة لمدة يومين متتاليين.
وصل عدد مصابي «كوفيد-19» حول العالم إلى أكثر من 20 مليون شخص مع نحو 750 ألف وفاة، وفي أجواء مرعبة كتلك لا شك أن الإعلان عن وصول اللقاح هو عيد لكل البشرية، لكن الروس -كما يبدو- لا يدعون الأمر يمر بسهولة، حيث يظهر لقاحهم وكأنه قد نزل توًّا من السماء!
أعلنت روسيا عن اللقاح الجديد بشكل مفاجئ، وهو مفاجئ حتّى للنطاق البحثي الذي يتسابق ساعة بعد ساعة للتوصل إلى لقاح فعّال للمرض، وذلك لأننا لا نعرف الكثير عن هذا اللقاح. لو قرّرت مثلا أن تتأمل قائمة منظمة الصحة العالمية للقاحات التي تخضع الآن للتجريب على الإنسان فستجد بالفعل اللقاح الروسي بينهم في القائمة، لكن الاختبارات عليه فقط في المرحلة الأولى من التجارب.
لكي تضمن أن لقاحا ما سيكون فعّالا في الوقاية من أحد الأمراض فلا بد أن يمر بأربع مراحل من التجارب، المرحلة قبل السريرية، وتعني التجريب على الأنسجة في المعامل والحيوانات، إذا نجح اللقاح في تلك المرحلة يدخل للتجريب على البشر، وهناك -بينما نتحدث- نحو 150 لقاحا في مراحل التجريب على البشر.
لكن حتى التجريب على البشر يحتاج إلى بعض التأنّي، فيبدأ الباحثون أولاً في تجريب اللقاح على عشرات المرضى، في مرحلة أولى، ثم تجريبه على مئات المرضى في مرحلة ثانية، وإذا كانت النتائج جيدة (اللقاح فعّال بشكل مناسب) وفي الوقت نفسه كانت الأعراض الجانبية ممكنة التحمل، كحرارة أو صداع أو بعض الاحمرار في الجلد، ننتقل إلى المرحلة الثالثة.
عادة ما يكون عدد المتطوعين في المرحلة الثالثة هو عدة آلاف إلى عشرات الآلاف من المتطوعين، مع هذا العدد الكبير لا نتأكد فقط من فاعلية اللقاح بشكل كامل وقدراته على تحقيق مناعة كاملة أو جزئية، ولكن أيضا نبحث خلف الأعراض الجانبية النادرة التي ربما لا تظهر في العيّنات الصغيرة. إذا حدث عرض جانبي قاتل بنسبة 0.05% على سبيل المثال فربما لا يظهر في التجارب الأولى، لكن مع 30 ألف شخص ستظهر نسبته.
هذا هو مثلا ما يفعله لقاح أوكسفورد وشركة أسترازينيكا، الآن دخل إلى المرحلة الثالثة من التجارب، سيخضع للقاح نحو 40 ألف شخص في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وجنوب أفريقيا والبرازيل، مع مجموعة من الاختبارات المخصصة للأطفال، بعد ذلك من المفترض أن يُترك الشخص لحين تأتيه الإصابة بالفيروس بشكل عشوائي، هذا أمر من الممكن أن يحدث بسهولة في الدول التي تختبر عدد إصابات هائلا مثل الولايات المتحدة والبرازيل.
أضف إلى ذلك مشكلة أخرى كبيرة طالما كانت محط انتباه الباحثين في نطاق تطوير اللقاحات خلال الشهور الماضية، وهي ظاهرة تسمى «الاستفزاز المعتمد على الجسم المضاد»، وتعني أنه في بعض الحالات فإن دخول اللقاح إلى الجسم قد يعكس الأمر، أي إنه لا يفشل فقط في إيجاد الفيروس، بل لسبب ما يتسبّب في دعم الفيروس ومساعدته على دخول الخلايا البشرية بسلاسة أكبر.
يرفع ذلك من قابلية الشخص للإصابة بالمرض وتطويره للأعراض المتقدمة منه، وهذا النوع من الاستجابة المناعية مرصود في عائلات مختلفة من الفيروسات مثل الإيدز وزيكا والحمّى الصفراء، لكن الأهم من ذلك أنه رُصِد من قبل في فيروسات تاجية أخرى، الأمر الذي يجعله احتمالا قائم الحدوث في حالة كورونا المستجد وهو فيروس تاجي أيضا، لذلك فالمرحلة الثالثة من الاختبارات ضرورية جدا.
لكن المشكلة في اللقاح الروسي أنه لم يتجاوز المرحلة الثالثة من التجارب بعد، وقد أعلن يريل ديميترييف، الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمار المباشر الروسي (الذي يُموِّل اللقاح)، عن هذا الأمر بالفعل، قائلا: إن المرحلة الثالثة من التجارب ستتم بينما يُسمح بإنتاج اللقاح للاستخدام البشري، التجارب التي ستتم على آلاف المرضى في الإمارات العربية المتحدة والسعودية والفلبين وربما البرازيل.
مشيراً إلى أنه إذا أُجريت التجارب في البرازيل فإن النتائج ربما ستظهر خلال أشهر قليلة، لكن بالنسبة لدول الخليج العربي المقترحة أو الفلبين فإن نسب الإصابات اليومية هناك ضعيفة، ما قد يؤخر وصول تلك النتائج إلينا، في أثناء ذلك فإن خطة روسيا لا علاقة لها بتلك النتائج، حيث سيبدأ العمل باللقاح فورا، وخلال أغسطس ستبدأ الدولة بتلقيح العاملين بقطاع الرعاية الصحية، ثم المدرسين، بعد ذلك سيبدأ إنتاج اللقاح على نطاق ضخم، ويُعتقد أن تلقيح المواطنين في خطة شاملة سيبدأ من يناير 2021 القادم.
من جهة أخرى فإن روسيا لم تقم بعد بإرسال الآلية الكاملة التي اتخذتها وصولا للحظة إعلان أن اللقاح جاهز للعمل إلى منظمة الصحة العالمية، لذلك فإن المنظمة كانت قد حثّت روسيا الأسبوع الماضي على اتباع الإرشادات الدولية لإنتاج لقاح ضد «كوفيد-19″، وأعلنت أنها بدأت مباحثات مع السلطات الروسية حول الأمر.
الأمر إذن يزداد حيرة، أضف إلى ذلك أننا لا نعرف الكثير عن مركز جماليا البحثي الروسي التابع لوزارة الصحة بدعم من وزارة الدفاع، والذي طوّر اللقاح، حيث كانت روسيا متكتمة جدا بشأن الدراسات حول طبيعته أو فاعليته، كل ما نعرفه أن تجاربها الأولى بدأت فقط في يونيو الماضي، وأنها تمت على 76 شخصا، لكن لم تُنشَر أي بيانات عن تلك التجارب!
نعرف كذلك أن اللقاح الروسي Sputnik V” ” الجديد يستخدم هيكل فيروس آخر (أحد الفيروسات الغدانية الذي يتسبّب في نزلات البرد) عُدِّل بحيث يصبح غير قادر على نسخ نفسه داخل الخلايا البشرية، بعد ذلك يُحمَّل هيكل هذا الفيروس بأجزاء من فيروس كورونا المستجد (بروتين الحسكة (الموجود على سطح كورونا والمسؤول عن ارتباطه بالخلايا البشرية)، تتسبّب تلك الأجزاء من كورونا المستجد في إحداث استجابة مناعية حينما تدخل إلى الجسم، فيصبح جاهزا لمقاومة كورونا المستجد حينما يأتي.
يعني ذلك أن “Sputnik V” له تركيب وآلية عمل شبيهة بلقاحات أخرى حققت نتائج واعدة إلى الآن مثل لقاح شركة أسترازينيكا وجامعة أوكسفورد ولقاح مؤسسة كانسينو الصينية، وكلاهما في المرحلة الثالثة للاختبارات، وهو أمر إيجابي في صف الإعلان الروسي، لكنه فورا يُشير إلى مشكلة أخرى ظهرت للعلن قبل عدة أسابيع فقط.
كانت مجموعة من باحثي جامعة أوكسفورد قد أشارت إلى أن البيانات المتاحة عن اللقاح الروسي إلى الآن تُشير إلى تشابه واضح جدا مع اللقاح الذي يقومون بتطويره بالتعاون مع شركة أسترازينكا، يتطور الأمر إلى اتهامات متزامنة من شركات وجامعات أميركية وكندية وبريطانية للإدارة الروسية بأنها تُموِّل حملات لقرصنة حواسيب أو هواتف العاملين في نطاقات تطوير اللقاحات الخاصة بـ «كوفيد-19».
المجموعة التي قامت بهذه الحملات13 سُمِّيت بـ “APT29″، أو «كوزي بير»، ومن المثير للانتباه أنها المجموعة نفسها التي حاولت اختراق وعملت على توجيه الانتخابات الأميركية في العام 2016 لغرض العمل على إنجاح دونالد ترامب، القضية التي تُشير إلى روسيا أيضا ولا تزال إلى الآن محل انتباه سياسي وقضائي في الولايات المتحدة الأميركية والعالم أجمع.
لهذه الأسباب -مجتمعة- فإن العديد من الباحثين في نطاق اللقاحات حول العالم، وفي روسيا نفسها، كانوا قد أبدوا استياءهم الشديد تجاه هذه الخطوة الروسية المبكرة جدا، واتهم البعض الإدارة الروسية بأنها تحاول تحقيق مكسب سياسي واقتصادي على حساب صحة الناس، في سباق هو الأكبر بين دول العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
روسيا هي دولة ذات تاريخ له علاقة بالتضليل والتلاعب السياسي في نطاقات حرجة، لذلك ليس من السهل أن نثق بها مع تصريحات محفوفة بكل تلك الأسئلة والمناورات، خاصة في أجواء يتداخل فيها العلم مع السياسة بصورة غير مسبوقة وتُستخدم المكاسب العلمية لأغراض انتخابية مثلا، ويمكن لنموذج دونالد ترامب مع الهيدروكسيكلوروكين أن يكون خير مثال.
لكن ذلك لا يعني أنها بالكامل لعبة سياسية، اللقاح حقيقي وكان فعّالا في تجاربه الأولى، وهو يشبه لقاحات أخرى نعرف أنها ذات نتائج واعدة، وكانت بالفعل -بحسب الإعلان الروسي- 20 دولة قد تقدّمت للحصول على مليار جرعة من اللقاح، لكن للأسف لن نتمكّن من التأكد من نتائج هذا اللقاح إلا بعد عدة أشهر، حينما يبدأ عدد كبير من البشر في استخدامه، ونرى النتائج، مَن يدري؟! ربما تحدث المعجزة.
الجزيرة نت

قد يعجبك ايضا