في وداع الشرفي والمحبشي

أحمد يحيى الديلمي
بانقضاء شهر رمضان المبارك شاءت الأقدار أن يفقد الوطن أثنين من أبنائه البررة بعد حياة حافلة بالعطاء كلاً في مجال اختصاصه .
* الأول الأديب الشاعر حسن عبدالله الشرفي
كان شاعراً مبدعاً ، أمتلك واحة من الصفاء ، منحت قلمه توازناً مذهلاً بين الشاعرية وبين ما يحتويه قلبه من معان وأحلام جميلة وهبها للوطن ، وعبر من خلالها عن أشواق العشق العذري حتى وهو يرتدي أثواب الزهد والوقار .
كان لثقافته الدينية دوراً هاماً في صفاء الذهن والقدرة على مواكبة الأحداث لأنها أكسبت روحه حيوية نادرة حلق بها في سماء الوطن كطائر من السماء ، جسد نفسه في إبداعات شعرية عكست رهافة التصوف البعيد عن ركاكة المعنى المتدثر بكبرياء الزهد ، فكان من الصعب حصار عبقريته في لون شعري واحد ، لذلك لم يُبعثر موهبته في قصائد المديح ومنادمة السلاطين ، استلهم من جبال المحابشة الخضراء العبقرية والقدرة على متابعة والحديث عنها بأسلوب إبداعي متميز ، لذلك عاش بهمومه وأفكاره للوطن بكل مشاكله وأفراحه وأتراحه ، كان يرى أن اليمن فوق الجميع الأحزاب، التيارات ، الاتجاهات السياسية ، المذاهب ، فكان متسقاً مع ذاته ، صادقاً في رسالته ، رافضاً للمساومات والمسارات المعوجة ، وبذلك اكتسب حب الوطن وأبنائه وبلغ صيته إلى أرجاء كبيرة من جغرافية الوطن العربي ، ولقد سمعت الرئيس الفلسطيني المرحوم ياسر عرفات وهو يُشيد بقصيدته “الدم و غصن الزيتون” تلك القصيدة التي تجاوز بها سماء اليمن وحلقت به في سماء العروبة ، بكلمات بسيطة ومعبرة أختزل فيها خيارات الشعب الفلسطيني ورسم معالم ما سيقوله الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وهو يقف لأول مرة في منصة الأمم المتحدة وحصر خياراته بين البندقية وغصن الزيتون ، قال لي المرحوم ذات مرة (يداهمني الإحساس بالخطيئة وأنا أشاهد شقاء الأطفال في بلادي وأحس بالعجز عن فهم ما يدور في أذهانهم من تطلعات ومساعدتهم على إيجاد طريق متوهج للإبداع ودفعهم إلى التمرد على الواقع المؤلم والقضاء على كل إحساس بعدم الجدارة لتنقية النفوس من الترهل والفتور) مثل هذه الأحاسيس الصادقة جعلته قريباً من الناس وأكثر قرباً من عالم البسطاء ، فأبدع كثيراً في رصد التناقضات والمفارقات التي يحفل بها الواقع .
ظل بقلبه وعقله مخلصاً للوطن والثورة ، وجعل من الشعر وسيلته الوحيدة لمحاربة الفساد والاستبداد ، كان يكتب بقلب موجوع وصحة معتلة وعقل مشغول بهموم الحياة اليومية ، لكنه لم ينس بذلك الإحساس المرهف تعاليم الدين والفهم العميق لأحكامه السامية ، فتصدى بشجاعة لمحاولة استغلال هذه الأحكام والانحدار بها إلى مزالق الغلو والتطرف والإرهاب ، لم ييأس ولم تلن عزيمته حتى في الفترة التي سيطر فيها الأوباش على مقاليد الأمور وكانوا هم مصدر القرار ، فظل يكتب ضد الظلم والجهل والدكتاتورية والإرهاب لأن همه في الأساس الوطن بحيث تحول طيلة مشواره مع الشعر إلى جندي مجاهد يقاتل أعداء الوطن بالكلمة الصادقة ، وظل كذلك إلى أن وافته المنية ليحزن عليه محبوه والمفتونون بشعره فرحمة الله عليه ، وعزاؤنا لأولاده وكل محبيه .
* الثاني القاضي عبدالرحمن عبدالله المحبشي
شاءت الأقدار أن يلتقي الاثنان في مسقط الرأس وأسم الأب ، فكلاهما من قضاء الشرفين الذي مركز مديريته المحابشة ، ثم انتقلا إلى الرفيق الأعلى معاً وفي مسافة زمنية متقاربة لم تتعد اليومين ، وعبدالرحمن المحبشي عضو مجلس النواب الممثل لمديرية كحلان الشرف كان من الرجال القلائل الذين أسهموا بجهد متواضع في خدمة الوطن ، بالذات حينما قلد مهمة رئيس التعاون الأهلي بمديرية كحلان الشرف ، فلقد حفر أسمه في ذاكرة كل مواطن من خلال المشاريع التي أنجزها في تلك الفترة التي آلت إليه المهمة فيها ، وكم كان حزيناً جداً عندما سعت قوى الظلام إلى إلغاء التعاونيات باعتبارها تجربة ناجحة ، قال لي والألم يعتصر قلبه ( أنهم يربطون التجارب بالأشخاص فإذا ذهب الشخص أسقطوا كل تجاربه الناجح والفاشل منها وهذه مشكلتنا الكبرى لأننا لن نتقدم ولن نتحرك قيد أنملة إلى الأمام طالما وتفكيرنا بهذا الضيق بالآخرين ، مع أنها انجازات للوطن ويجب أن يحتفظ بها للوطن وليس الأشخاص) وفي آخر لقاء جمعني به دار الحديث حول حصانة عضو مجلس النواب فكان كعادته صريح في الإعلان عن موقفة قال ( إنها حصانة ذو شقين البعض يستخدمها كوجاهة اجتماعية لإيذاء الناس والتحكم في شئونهم وتخويف مصادر الضبط في البلاد ، وهذا أسلوب همجي لا يتفق مع ما أراده المشرع ، والشق الآخر هي الحصانة الحقيقة التي تكون حماية لعضو مجلس النواب من أجهزة الدولة وتمكنه من الإسهام الفاعل من خدمة من أوصلوه إلى كرسي البرلمان وترجمة آمالهم وتطلعات بصدق وإحساس بالمسئولية ، والحقيقة أن هذه الصورة منعدمة في بلادنا في الوقت الراهن لأن العضو نفسه لم يصل إلى مرحلة الارتقاء بأدائه إلى المستوى الذي يتمناه الناخب ، وكذلك الناخب لا يزال بعيد عن فهم معنى الانتخاب ولماذا ينتخب ، فكل ما يحصل أن الأحزاب تُجيش يوم الانتخابات لكي تفرض قوة حضورها في الواقع و تراهن على الغث والسمين من أجل ذلك ، وهذا هو المسار المعوج الذي يؤدي إلى عدم تكامل الرؤية لدى المشرعين ولا يصل بالأمر إلى نخبة متجانسة تتمكن من صياغة التشريعات بأفق وطني شامل ، لذلك نجد أنفسنا محشورين في إصدار القوانين ثم تعديلها، القانون الواحد يتم تعديله في السنة أكثر من مرة بحسب رغبة المسئول الجديد وما يقدمه من خدمات لعضو مجلس النواب الذي يقف إلى جنبه ويساعده في التعديل ، وهذا هو الخطأ الكبير ومع استمراره لن تستقر الأحوال لأن التشريعات غير مستقرة وخاضعة للتغيير والتبديل في كل لحظة بحسب الأمزجة، لذلك نأمل أن يكون التغيير الجديد مدخلاً لاستقرار التشريعات وإيجاد قواعد قانونية يخضع لها الجميع بعيداً عن التجاوزات والتدخلات والوساطات وهذا ما نطمح إليه .
رحمك الله يا عبدالرحمن فلقد كنت صادقاً في هذا الطرح وبالفعل لامست هموم أكثر المواطنين التي تتسم بالحساسية ويحاول الكثيرون الابتعاد عن مناقشتها كونها تضر بمصالحهم الذاتية ، وهذا ما نشكو منه ولا نزال إلى الآن ويجب أن تترسخ معالم الخطأ فيه في أذهان كل مواطن كي يتحول صندوق الانتخابات إلى وسيلة مقدسة للفرز وحسن الاختيار حتى نضمن وجود غرفة برلمانية قادرة على الرقابة وتحصين الوطن من الفساد والموبقات ..
نسأل الله الرحمة للفارسين حسن الشرفي وعبدالرحمن المحبشي ولذويهما وللوطن الصبر والسلون .. وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

قد يعجبك ايضا