محمد الشرفي.. شاعر الإحساس العالي

بلال قايد عمر

«لأول مرة
أحسك في أذني
وفي خاطري رعشات تغني
وفي مهجتي فيض حب جميل
لأول مرة
تطوف بروحي الرؤى
تحلق بي فوق عالم المستحيل
لأول مرة
أحسك في كل سلك
جراحا تغني وتبكي
على ما مضى من زمان طويل».
ما إن تقرأ نصوص الشاعر محمد الشرفي حتى تلمس الإحساس العالي والحوار الذاتي واللمسة الفنية وتعدد الأصوات  في القصائد.. ما إن كتب الشرفي أول قصيدة مكتملة حسب تعبيره حتى سجل دخوله الرسمي عالم الشعر الذي تطورت تجربته فيه وانتقل من تجربة الى تجربة أخرى، ففي حين كان يرفض كتابة شعر التفعيلة لعدم حاجته إليه- كما ذكر في إحدى مقدمات دواوينه -إلا انه عاد لكتابة شعر التفعيلة عندما لم يسعفه الشكل العمودي في تناول القضايا في شعره.. بنى الشرفي تجاربه على الهم الجمعي للمجتمع واختار أن تكون المرأة بطلة نصوصه وقضيته التي آمن بها وآمنت به، ومن يقرأ مسرحياته يجد اشتغاله على المجتمع بشكل واضح للقارئ،  كانت كتابة النصوص والمسرحيات عبارة عن حالة اندفاع للوصول إلى ختام للقضية التي عايشها الشاعر والشوق الذي كان يأكله من الداخل، للوطن الحلم الذي كان متمركزا في رؤيته العالية الشفافية.
يعتبر الشرفي من أوائل من تناول الجانب الاجتماعي للمرأة ونذر نفسه وقصائده لهذا البعد الذي كان غائبا وقتها عن اهتمام الشعراء المعاصرين له، ما عدا قصائد منثورة هنا وهناك.
لفت نظرة الاختلاف الشاسع بين وضع المرأة في القرى حيث العمل والحب والفطرة الطبيعية في التعامل وكانت تمارس حياتها بانطلاقة، بعكس المدينة والتي قُيدت فيها وحُبست وراء الجدران، الفرق بين ملابس القرى الملونة والمبهجة وبين الشرشف الأسود الدخيل على المجتمع اليمني والذي تطور إلى لبس البالطو الذي لا يختلف عنه.
«كان الشرفي أكثر ميلاً إلى التجديد والتحديث في البناء والتركيب، وفي الشكل والموسيقى والفن، لم يكن قالبا جامدا ولا فكرة هامدة، لقد كان حركة فنية وموضوعية متجددة في ذاتها وفي بنيتها وفي تركيبها وفي نسقها وكان أكثر معاصرة من الفكرة وفي الرؤية، لم يكن متماهيا في الآخر بقدر ما كان يؤمن بالخصوصية الثقافية والحضارية ويؤمن بالمشترك الانساني» أصدر الشرفي ثمانية عشر ديوانا وأربعة كتب مختارات شعرية وإحدى وعشرين مسرحية وأكثر من خمس دراسات ماجستير ودكتوراه عن شعره ومسرحياته بجانب كتابين صدرا باللغة التشيكية. حاز الشرفي جائزة جبران خليل جبران في العام 1990م ولدى الشرفي مسلسلان إذاعيان ومسلسل ثالث لم يذع.
حمل الشرفي في مجمل دواوينه قضية المرأة وأطلقوا عليه لقب نزار اليمن بجانب شاعر المرأة في اليمن وهو ما تسبب له في كثير من المضايقات من قبل الجماعات الدينية والقبلية، فأول ديوان له كان بعنوان « دموع الشراشف» وآخر ديوان صدر له بعنوان«من مملكة الإماء »، ففي الديوان الأول كانت قصيدة «الموعد الجائع » التي أثارت ضجة حينها وفتحت أعين المتعصبين من المحافظين فشنوا عليه الحملات في محاولة لإسكات صوته.
عمل  في الإذاعة من عام 60م وحتى 65م ومن ثم انتقل إلى وزارة الخارجية من 65م حتى 75م وتولى الأمين العام للجمعية الوطنية للمسرح اليمني والذي حقق نقلة نوعية في الكتابة المسرحية والعروض المسرحية بجانب مساهمته في تأسيس عدة جمعيات ومنظمات.
يعتبر الشرفي أول مؤسس للبرامج الشعبية في الإذاعة حيث قدم أول برنامج شعبي تحت عنوان « هكذا كنا » الذي تغير بعد سنة إلى « جي نتجابر».
وكما حمل  قضية المرأة، حمل كذلك قضية تنوير الشعب من خلال المسرحيات التي كتبها والتي حاول فيها أن يعالج مختلف قضايا وواقع المجتمع اليمني، فأول مسرحية له كانت بعنوان « في أرض الجنتين»، وآخر مسرحية « مملكة السعادة» مرورا بـ«العشاق يموتون كل يوم» و « لليمن حكاية أخرى» وغيرها من المسرحيات التي شخَّصت الواقع اليمني وحاول فيها أن يقترب من جوهر ما يعانيه المجتمع وأن يأخذ بيد المجتمع.
انحاز الشاعر الشرفي  لقضايا المرأة وإلى وطن خال من التمييز المذهبي، واستمر مؤمنا بإنسانية الإنسان مدافعا عنها وجعل قلمه في مواجهة كل من يحاول أن ينال منها.
من تجلياته :
جئتك اليوم حاملا نصف قرن
من سنين الهوى وقرنا عذابا
وأجر الزمان كالشيخ خلفي
وترا نازفا.. ولحنا مصابا
مزقتني الأيامُ واستعبدتني
وارتمت مخلبا بقلبي ونابا
تتشظى جروح نفسي على خطوي
فأمشي بها ركاما خرابا.
عُرف الشاعر الشرفي بأنه من مناصري المرأة وحريتها والمدافعين عن قضاياها. كتب أول قصيدة ناضجة له عام 1955م في الوقت الذي بدأ يتمرد فيه على اللبس التقليدي( العمامة والملابس الفضفاضة والتوزة والجنبية الحزام) وبدأ بلبس الساعة والنظارة الشمسية.
وكان الشرفي قد قسَّم تجربته إلى أربع مراحل كالتالي:
المرحلة الأولى: من عام 58م حتى 62م حيث كان الهم الأكبر والهاجس هو الأوضاع المتخلفة التي كان يعيشها اليمن بسبب العهد الإمامي الذي عطل الأرض والإنسان حيث كان جل ما كتبه الشاعر هي قصائد وطنية.
المرحلة الثانية: من بعد ثورة 62م بأشهر حيث تنبه الشاعر إلى أن الرجل وحده بالميدان، وتردد الرجل في إتاحة الفرصة للمرأة، فكانت حصيلة تلك المرحلة مجموعة من الدواوين والمشاكل، فكان الشرشف هو رمز قيد المرأة واضطهادها، وتعرض كذلك لحجاب الصغيرات وزواجهن.
المرحلة الثالثة: انتقل من مرحلة الاهتمام بمظهر المرأة الخارجي إلى ما تعانيه من تخلّف فكري وتزامنت هذه المرحلة مع المرحلة الرابعة وهي انتقاله من قصيدة البيت إلى قصيدة التفعيلة وهو ما أعطاه فرصة ثمينة للتعبير بصورة أكثر جمالا وحرية، وفي هذه المرحلة أشرك المرأة في تحمل مسؤوليتها إزاء ما تتعرض له، وقد دعاها بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى أن تثور على واقعها.
وقد توسعت رؤيته للمرأة القضية لتصبح الرمز للأرض والثورة والوحدة والمستقبل, فقد أدرك وقتها أن المرأة جزء من الكل.
وظَّف الشرفي مسرحياته الشعرية من أجل القضية حتى تتحرر المرأة الرمز من سلطة وعبودية الرجل والمرأة القضية من الظلم والقهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
ما للبحار ترجَّلت للسندباد؟
ما للشواطئ أبحرت في جرحه
وتحلّقت فوق الضماد ؟
ما للسنين توقفت عند الدواة
وكابدت وجع المداد ؟
هل كان بحارا يجيد الغوص في الأعماق
والأشواق ..والحلم المراد؟
أم سيفهُ المصقول في نهار الجهاد؟
أم أنه مهر العناد؟
أرخى أعنَّته الجريحة للنهاية واستراح
وأطفأ القنديل في نهر الرماد…
«منذ أول ديوان له وحتى آخر قصيدة له، كلها نص طويل لم يكتمل».

قد يعجبك ايضا