جدل الصورة النمطية للأشياء

عبدالرحمن مراد

بعضنا للأسف الشديد يرى الاسلام في ما اعتاده في طور نشأته من طقوس وممارسات وسلوكيات وعبادات وما دون ذلك مروق وخروج عن الدين .
لا يمكن القياس بالصورة النمطية التي ننشأ عليها ونرى من لا يقوم بواجب طقوسها مارقا وخارجا عن الملة فالإسلام ليس طقوسا نمارسها ولكنه حركة روحية واخلاقية وقيم ومبادئ إنسانية وفكرة وجودية تنشد الخير العميم للعالمين كما أنه ليس دمارا وفناء للآخر وليس تبتلا وتراتيل بل عمل و تفاعل وتعايش على قاعدة واضحة من العلاقات والتفاعلات الوجودية والإنسانية.
ما يصدره السدنة والكهنة لنا من طقوس الهدف منها هو إحكام السيطرة على الموجهات الوجدانية بعاطفة دينية لبلوغ غايات دنيوية وقد كانت سببا مباشرا في تعطيل قدرات المسلمين الإبداعية والابتكارية فهم في آخر الركب الحضاري بسبب التصورات الخاطئة والتفسير الخاطئ لمقاصد الإسلام كدين يسعى لإحداث التوازن في طبيعة الإنسان المتوحشة ليبلغ قدرا من مراتب الانسانية .
لم يكن الاسلام إلاّ ثورة حقيقية وعميقة جاءت لتحدث تغييرا في البناءات النمطية سواء منها الثقافي أو الاجتماعي أو الاقتصادي , فقد أحدث تبدلا في قيم المجتمع وأخرجه من نمطية العهد والمعهود في الحياة إلى رحابة الفكرة ليكسر جامدا أخذ حكم العادة والعبادة حتى يتمكن من التأسيس لحياة أكثر تفاعلا مع المستويات الحضارية لعموم البشر مع وجود الضابط الاخلاقي الذي كان جوهر الدعوة الاسلامية .
لقد كان الاسلام يدعو لمكارم الاخلاق وظل يقر منها ما فيه النفع العميم على المجتمع ويبطل منها ما فيه مفاسد , ولذلك كان اكتمالا قيميا في جوهره , ومثل هذه الخصيصة الجوهرية ظلت بمنأى عن هم الاشتغال العلمي في القديم والحديث ولم يصلنا في هذا الباب إلا كتب بعدد أصابع اليد الواحدة , حيث مال الناس الى فقه الطهارة وخاضوا جدلا واسعا فيه , وصنفوا مئات الكتب وعشرات الرسائل قديما وحديثا والغريب أنك تجد في زمننا رسائل علمية تتخصص في الآراء الفقهية في الروائح التي تخرج من الرجل والبعض في جواز التزاوج بين الأنس والجان ورسائل في النكاح وفي غير ذلك من القضايا التي تنفصل عن جوهر الدين وتعتبر من الشكليات التي لا نرى الاسلام يوليها اهتماما مثل عادات الملبس ولونه وشكله ومحدداته إلى درجة إهدار الوقت في خوض الجدال حولها وهو الأمر الذي يصرف العقول عن حركة الكون وعن حركة الزمن من حولنا ويضعنا في مراتب العالم الثالث من خلال هذه الصورة النمطية التي حاصرنا الاسلام فيها في اشتغالنا واهتمامنا .
ليس خروجا عن الدين ولن يكون إذا قرأنا الاسلام بمنهج الجدلية التاريخية وحاولنا تشذيبه وتهذيب تاريخه بعقل واع لا جامد يرى السلوك فيعتاده فيصبح عنده نمطا وعباده , فالإسلام ليس قالبا جامدا ولكنه حركة ديناميكية تستفيد من المستويات الحضارية فتصبغها بالقيم العظيمة التي تحقق مبادئ الحق والخير والعدل .
لقد كان العرب وما برحوا يتقبلون القضايا في كلياتها دون تفكير أو تحليل وتلك معضلة عظيمة جعلت من الاسلام قالبا جامدا غير متحرك ولا متقبل للمستويات الحضارية الجديدة فمأزال العرب يفسرون القرآن بعقل الخازن وابن كثير وابن عباس , وينظرون إلى قضاياهم الاجتماعية والثقافية بعقل الشافعي وابن حنبل وابن حزم وغيرهم , يتقبلون منهم رغم التقدم العلمي وأولئك علماء مفكرون مجتهدون عالجوا قضايا زمنهم في عصرهم الذي أصبح مختلفا كل الاختلاف عن عصرنا ولذلك يؤخذ من كلامهم ويرد وفق مقتضيات الزمن الذي نحن فيه , فتجزئة الفكرة وعرضها على مقاصد الدين وغاياته هما السبيل الامثل للوصول إلى المستوى الحضاري والثقافي الذي يليق بالإسلام لا غيره .
ما يجب الوعي به أن الإسلام حركة ثورية متجددة ومتفاعلة مع قضايا الأزمنة والأمكنة ولذلك نجد اليهود في القرن الأول والثاني حاولوا طعنه في صميمه وفشلوا من خلال زرع قيم ومبادئ نصية وهو ما اصطلح العلماء على تسميته بالإسرائيليات ولم يقفوا عند ذلك الحد فالفكرة كانت تتجدد لديهم أمام كل هزيمة سياسية أو عسكرية وعبر حقب التاريخ المختلفة وصولا إلى عصرنا الحديث الذي يحاولون فيه ضرب أي حركة تنوير وبعث تحاول تجديد الدين وتحديثه بما يتوافق والمستوى الحضاري الذي نعيش، حتى على مستوى الرموز الفكرية الذين أثاروا سؤالا حضاريا إسلاميا حديثا فقد نالت من حياتهم عن طريق التحريض والاغتيال كفرج فودة ومحمد عمارة وهي تقف بكل رباطة جأش أمام حركة المقاومة والممانعة أملا في وأدها كما نجد ذلك في حربها التي شنتها على حزب الله في تموز عام 2006م وفي حصارها لإيران وهي لم تكن بمنأى عما يحدث في اليمن منذ 2004م وصولا إلى التحالف الذي يشن حربه على اليمن منذ أعوام أربعة ونيف , فحركة انصار الله تشتغل على مشروع ثقافي باعث ومجدد – سواء اتفقنا أو اختلفنا معه – إلاّ أنه مشروع ثقافي بزغ وأصبح واقعا بقوة فكرته وبقدرته على الصمود أمام الهجمات الكونية عليه ولذلك كانت الحرب عليه تهدف إلى تحجيم فاعليته من خلال الركون إلى نمطية الصورة وتحجيم دوره خوف التجدد والبعث ومن خلال خاصية الثبات التي تمتاز بها العقلية العربية قد ينجحون في غايتهم إذا ملنا إلى الركون الى الصورة وتوقفنا عن التجديد والبعث والتحديث والتفاعل .
الإسلام حركة ثورية دائمة التجدد ولابد له من التجدد والبعث والتحديث وكسر النمط والنسج على المنوال حتى لا تنطفئ جذوته بل تظل مشعلا ثوريا ينير ظلمات العالم والروح .

قد يعجبك ايضا