فيه ليلة خير من ألف شهر

شهر القرآن (2-1)

 

 

عبدالله عامر

شهر رمضان له فضل كبير وميزة خاصة تميزه على سائر شهور السنة، فكان تميُّزُ هذا الشهر المبارك لأنه يضم في ثنايا أيامه ولياليه عبادات عظيمة ذات أجور مضاعفة، فهو شهر الرحمة والمغفرة والرضوان، فمن أدركه من أهل الذنوب والمعاصي ولم يضع فيه عن كاهله أثقال معاصيه وسيئاته فهو إنسان شقي بعيد عن الله وعن هديه.
وقد اختار الله تعالى هذا الشهر المبارك أن ينزل فيه كلامه على خاتم أنبيائه رسله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أول نزولٍ للوحي حاملا معه الآيات الأولى من كلام الله، والنبي في حالةٍ من الروحانية الربانية وهو يتعبد الله في غار حراء، وكان ذلك قبل سنوات من فريضة الصيام التي اختار الله أن تكون هذه الفريضة العظيمة في هذا الشهر المبارك، حيث لم يشرع الصيام إلا في السنة الثانية للهجرة النبوية، ووراء هذا سر إلهي عظيم، فقد جمع الله من العبادات في هذا الشهر ما لم يجمع في غيره من الشهور.
وكما هو معروف من أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة بأن هذا الشهر كان النبي يخصه بعظيم من عبادته في خلواته التي كان يختار لها وقتا من السنة يعد لها العدة في سائر السنة، فكان شهر رمضان من بين الشهور التي كان صلى الله عليه وآله وسلم يخصها بالانقطاع فيها إلى الله للعبادة والتفكر في عظيم ملكوته.
يقول الله تعالى في شأن نزول القرآن في شهر رمضان: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
ففي هذه السورة المدنية ذكر الله تعالى أنه أنزل القرآن في شهر رمضان الذي فرض الله فيه الصيام بعد مرور سنوات من نزول طائفة كبيرة من القرآن، فكأن الله اختار هذا الشهر لنزول القرآن لما يعلم سبحانه وتعالى أنه سيختاره لفريضة الصيام، وأنه سيجعل ليلة واحدة فيه هي خير من ألف شهر، والتي ذكر الله عنها بأنه أنزل فيها القرآن على اختلاف الروايات بين نزوله دفعة واحدة إلى سماء الدنيا، أو بأن المقصود هو أن ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر؛ ليجتمع في هذا الشهر الكريم عظيم العبادات والطاعات، فيكون موسما جامعا لأعظم الطاعات كتجارة موسمية يستطيع المسلم من خلاله أن يفوز بأعظم الأجور وجزيل الثواب في وقت قصير.
فقد جعل الله لهذا الشهر قدسية خاصة وروحانية متميزة يجد المسلم معها نفسه أقرب إلى فهم القرآن وتأمل معانيه والتأثر بمواعظه وزواجره أكثر من أي وقت آخر.
فارتبط القرآن برمضان ارتباطا وثيقا منذ نزول أول آياته في هذا الشهر الكريم وزاد هذا الارتباط متانة ورسوخا بعد أن فرض الله الصيام وسن القيام في هذا الشهر المبارك، فينبغي أن يكون هذا الشهر الكريم موسما ينال فيه القرآن عناية خاصة بالتدبر والتأمل والبحث في معاني القرآن الكريم ودلالاته الواسعة ليكون محطة تزود من الهدى والتقوى لما يستقبل المسلم من سنته.
فعلى قارئ القرآن أن يعد عدته لفهم كتاب الله في هذا الشهر الكريم ولا يكن كل حرصه واهتمامه بأن يختم عددا من المصاحف في هذا الشهر لأن هذه فكرة غير سليمة ولن يستفيد قارئ القرآن من القرآن إلا بقدر ما فهمه منه، ولن يأت الفهم إلا بالتأمل والتدبر وليس بكثرة مرور القارئ على الآيات مرورا سريعا، فهذا التصرف مع القرآن الكريم هو ما جعل معظم الناس لا يخرجون من قراءتهم للقرآن الكريم بما يريد الله لهم من قراءته من الهدى والنور والصلاح، مع أن كثيرا من قارئي القرآن تجده قد قرأ القرآن مئات المرات.
فيا قارئ القرآن احرص في قراءتك أن تفهم من القرآن ما يمكن لك فهمه، ولا تكن عجولا مهتما بإتمام قراءة المصحف بأسرع ما يمكن لتعود مرة أخرى إلى قراءته من جديد بنفس هذه الطريقة، فهذا التعامل مع القرآن هو الذي أمات القرآن فأصبح وكأنه كتاب يقرأ لنيل البركة وجمع الحسنات بالمرور على آياته وترديد أحرف كلماته.
ومن أحب أن يعرف كيف يقرأ القرآن عليه أن يعود إلى كلام إمام الكلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه حيث يقول فيمن يقرأون القرآن على وجهه وكما ينبغي: (أما الليل فصافون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا، يحزِّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف، أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم، وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم ).
وقد ورد في الحديث الصحيح أن القرآن يأت يوم القيامة مخاصما قارئه، فاختر لنفسك من تكون، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وَآله وسَلَّم: ((يأتي القرآن يوم القيامة له لسان طلق ذلق ماحل مصدق، وشفيع مشفع، فيقول يارب: جمعني فلان عبدك في جوفه، وكان لا يعمل فيَّ بطاعتك، ولا يتجنب فيَّ معصيتك، ولا يقيم فيَّ حدودك، فيقول: صدقت، فيكون ظلمة بين عينيه، وأخرى عن شماله، وأخرى عن يمينه، وأخرى من خلفه، تبتزه هذه، وتدفعه هذه حتى يذهب به إلى أسفل درك من النار، قال: ويأتي القرآن يقول لآخر: يارب جمعني عبدك فلان في جوفه كان يعمل فيَّ بطاعتك، ويتجنب فيَّ بمعصيتك، ويقيم فيَّ حدودك، فيقول صدقت، فيكون له نور كما بين السماء والأرض حتى يدخل الجنَّة، ثم يقال له اقرأ وارق، فيقرأ ويرقى حتى يساوي الشهداء هكذا، وجمع بين المسبحة، والوسطى)).
فينبغي على قارئ القرآن أن يتأسى بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان خلقه القرآن بمن قرئ القرآن كما يليق من عُبَّاد الأئمة وصالحي المؤمنين، ولنا في حليف القرآن الإمام زيد بن علي سلام الله عليهم خير أسوة وقدوة، فقد مكث سلام الله عليه يتأمل القرآن ويستنطق آياته سنوات عديدة حتى عُرف بين المسلمين بحليف القرآن، فحركته آيات القرآن نحو الأمر بالمعروف وإنكار المنكر والجهاد في سبيل الله، ولذا ورد عنه سلام الله عليه أنه كان يقول: وَاللَّهِ مَا يَدَعُنِي كِتَابُ اللَّهِ أَنْ تُكَفَّ يَدِي، وَاللَّهِ مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنَ الْعَارِفِيْنَ بِهِ أَنْ يَكُفُّوا أَيْدَيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ عَنِ الْمُفْسِدِيْنَ فِيْ أَرْضِهِ.

قد يعجبك ايضا