اللغة الحية.. مدخل إلى الأنثروبولوجيا اللغوية

خليل المعلمي
تعد الأنثروبولوجيا اللغوية أحد أهم الحقول المعرفية البينية في الوقت الراهن، إذ تدرس التأثير المتبادل بين اللغة ومختلف الأنشطة والممارسات الإنسانية الاجتماعية، أي تأثير اللغة ودورها في تشكيل المجتمع والثقافة، وكذلك تأثير الممارسات الاجتماعية في اللغة، ازدهارها وأفولها، حياتها وموتها.
وإذا كانت اللغويات تتناول اللغة مستقلة منزوعة من سياقها الإنساني الاجتماعي، أي تنشغل بالجوانب التركيبية والنحوية والدلالية فحسب، فإن الأنثروبولوجيا اللغوية تتجاوز هذا الأمر لتتناول اللغة في صورتها الحية، أي في سياق الممارسات الثقافية والفعاليات الإنسانية المختلفة.
ويأتي كتاب “اللغة الحية.. مدخل إلى الأنثروبولوجيا اللغوية” للكاتبة “لورا أهيرن” المتخصصة في الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، باعتباره مدخلاً سهلاً إلى مبادئ وأسس لأنثروبولوجيا اللغوية دون الإفراط في تبسيط أو تسطيح الإسهامات القيمة في هذا المجال، ويضم الكتاب اثني عشر فصلاً مقسمة إلى ثلاثة أقسام أساسية يضم كل قسم أربعة فصول.
اللغة ذاتها
تتناول المؤلفة في القسم الأول اللغة ذاتها، وتبين كيف يمكن دراسة استعمال اللغة باعتباره صورة من صور السلوك الاجتماعي، وتوضح “أهيرن” أن الأنثروبولوجيا اللغوية لا تنظر إلى اللغة معزولة عن سياقها الاجتماعي أو باعتبارها وسيطاً محايداً لعملية التواصل وإنما هناك علاقات متبادلة بين اللغة والممارسات الاجتماعية المختلفة ولا يمكن فصل اللغة عن الثقافة والعلاقات الاجتماعية ،فحياة اللغة مرتبطة بالسياق الاجتماعي الإنساني.
وتقدم بعض المصطلحات والمفاهيم الأساسية التي ستعتمد عليها في مناقشتها اللاحقة في الكتاب، والتي يمكن تطبيقها في السياقات الاجتماعية المختلفة، مثل مفهوم الممارسة ومفهوم التعبيرات الإشارية، كذلك تناقش أهيرن كيف يمكن إجراء بحث أو دراسة في مجال الأنثروبولوجيا اللغوية، حيث توضح ما الأسئلة والقضايا التي يطرحها الباحثون، وكيف يمكن بلورة هذه الأسئلة، وما المناهج التي يستخدمها الباحثون لإجراء أبحاثهم ودراساتهم وكذلك تناقش بعض المعضلات العملية الإجرائية والأخلاقية التي يتعرض لها الباحثون خلال دراسة اللغة في المواقف الاجتماعية الواقعية الحقيقية.
ومن القضايا المهمة التي يناقشها هذا القسم قضية اكتساب اللغة، حيث تركز المؤلفة على دراسة كيفية اكتساب وتعلم الأطفال الصغار لأول مرة خلال عملية إدماجهم في المجتمع وفي الممارسات الثقافية.
ويظهر أن القيم الثقافية والممارسات الاجتماعية وتنوع طرق تفاعل الآباء مع الأبناء، كلها عوامل تؤثر في عملية اكتساب الطفل اللغة، وأن عملية اكتساب اللغة ليست قاصرة على مرحلة الطفولة فحسب، وإنما تستمر مع المراحل المختلفة للحياة أو تعلم لغة ثانية.
وناقشت المؤلفة العلاقة بين اللغة والفكر والثقافة، حيث تؤكد أن العاملين في مجال الأنثروبولوجيا اللغوية في الوقت الحالي يرون أن تأثير اللغة في الفكر والثقافة هي أنها تجعل الإنسان يميل أو ينزع إلى رؤية معينة للعالم، أو لديه قابلية واستعداد أكبر لهذه الرؤية من غيرها، ولكنه ليس تأثيراً حتمياً، أي أن اللغة لا تفرض هذه الرؤية دون غيرها، تقول أهيرن: “إن اللغة التي تتكلمها قد تجعلك أكثير ميلاً واستعداداً لرؤية العالم بطريقة معينة لكنها لن تمنعك من رفض هذه الرؤية أو تغييرها”.
المجتمعات اللغوية
تناقش المؤلفة في القسم الثاني الصور المتعددة لما تطلق عليه “ألمجتمعات اللغوية” وتركز على فكرة “المجتمع اللغوية” أي المجتمع الذي يستعمل لغة واحدة على اختلاف لهجاتها، ما المشترك الذي يجمع –لغوياً- بين أفراد وأعضاء مجتمع بعينه؟ وما نوع التفاعلات والعلاقات القائمة بينهم؟ وما الحدود المكانية التي يمكن أن تجمع –لغوياً- أفراد مجتمع واحد؟ ثم تمضي أهيرن خطوة أبعد لتضع هذه المجتمعات اللغوية في سياق عالم أوسع، حيث تناقش التعددية اللغوية في ظل العولمة، والحدود الفاصلة بين اللغة واللهجة وتوضح أن الأفراد الذين يتحدثون لغتين أو أكثر في منطقة ما قد يجمعهم موقف واحد مع أفراد آخرين في منطقة أخرى في العالم، ولذا فمن المهم عند إجراء أبحاث حول الممارسات اللغوية أو الاجتماعية مراعاة التعددية اللغوية لدى الأفراد والمجتمعات.
وإذا كان الباحثون في مجال اللغويات يركزون عادة على اللغة المنطوقة فقط، فإن أهيرن تنظر إلى اللغة بمنظور أوسع وأشم،ل حيث تتناول الطبيعة المركبة للغة في صورتي الكتابة والشفاهية، وتؤكد أن دراسة ممارسات الكتابة في السياق الاجتماعي جنباً إلى جنب مع الممارسات الكلامية الشفهية تكون مفيدة وكاشفة إلى حد كبير.
حياة اللغة وموتها
كما تناقش الكاتبة قضية موت اللغة وحياتها، وما الأسباب التي تؤدي إلى تعرض كثير من اللغات في العالم للخطر؟ وما الأفكار والممارسات التي تقف وراء أفول وانقراض لغة ما تدريجيا؟ وماذا يعني القول إن لغة ما أصبحت ميتة أو منقرضة؟ وكيف يمكن بعث الحياة من جديد في لغة ما”، وتذكر “أهيرن” أمثلة عديدة للغات اندثرت واختفت في القرن العشرين وتقدم معلومات إحصائية لوصف وتحليل عوامل الخطورة التي تتعرض لها اللغة والتي تؤدي إلى ضعفها وأفولها تدريجيا، مثل الاقتصار على تعليم اللغة الأجنبية للأطفال في الصغر، والتوقف عن تعليم اللغة الأم سواء في مرحلة الطفولة أو في مراحل تالية، وتعتبر أهيرن أن نسبة اللغات الآمنة في العالم لا تزيد على 10% من مجموع اللغات في العالم، وأن بقية اللغات في خطر الانقراض والاندثار، هذا الجزء المهم من الكتاب بمنزلة جرس إنذار لمن يهمه أمر حياة لغته وبقائها وازدهارها.
اللغة والسلطة والتمييز الاجتماعي
فيما تتناول المؤلفة في القسم الثالث من الكتاب قضايا أكثر عمقاً داخل بنية المجتمعات اللغوية القائمة بالفعل، مثل النوع والعرق والقومية والسلطة، وذلك بفحص ودراسة الأبعاد المختلفة لأنماط التمييز الاجتماعي واللغوي وعدم المساواة داخل مجتمعات بعينها، وكيف يرتبط كل منها بالآخر، فتتناول الكاتبة مثلاً قضية الفروق اللغوية بين الرجل والمرأة وتناقش وتحلل بعض الأفكار السائدة حول طرائق الكلام لدى الرجال والنساء من خلال الحوارات اليومية العادية بين الرجال والنساء، وتكرس جزءاً كبيراً لتفنيد بعض الخرافات الشائعة نتيجة الاستسهال والتسطيح وعدم الدقة، وتقول إن أكثر ما يميز العلاقة بين اللغة والنوع هو التركيب والتنوع ثم تتعرض لقضية التمييز والاختلاف العرقي وعلاقتها باللغة والممارسات اللغوية، وذلك من خلال حالة الأمريكيين من أصول أفريقية.
الخاتمة
وتختتم “أهيرن” كتابها بفصل أخير يجمع خيوط الموضوعات التي تعرضت لها على طول الكتاب، وذلك لتقديم رؤية عن الممارسات اللغوية المترسخة في آليات السلطة وتشير إلى أن ما يربط هذه الموضوعات المختلفة ببعضها البعض ويلعب دوراً في كل منها هو وجود نوع أو نمط من “السلطة” وعلاقاتها وتجلياتها المختلفة في اللغة أو من خلال اللغة.
وتذكر المؤلفة أن العاملين في حقل الأنثروبولوجيا اللغوية يستندون في تناولهم العلاقة بين اللغة والسلطة إلى ثلاث مقاربات أساسية لفكرة السلطة، هي مفهوم الهيمنة كما صاغه وعبر عنه “رايموند ويليامز” وكتابات “ميشيل فوكو” حول السلطة والخطاب، وأعمال “بيير بورديو” عن اللغة والسلطة الرمزية والسوق اللغوية. وبينما يتجنب معظم اللغويين الحديث عن علاقة اللغة بالسلطة تماماً، ويفضلون تناول اللغة باعتبارها موضوعاً للتأمل بدلاً من اعتبارها أداة للفعل والسلطة ترى “أهيرن” أنه عند النظر إلى استعمال اللغة باعتباره نوعاً من السلوك الاجتماعي فإن القضايا المتعلقة بالسلطة والقوة تصبح قضايا أساسية ومركزية.
ومن خلال محتويات الكتاب فإن المؤلفة تدعو الجميع لاستكشاف فكرة أن استعمال اللغة يعني الانهماك في صورة من صور السلوك الاجتماعي ما يؤدي إلى تقدير أفضل لما تعنيه اللغة الحية.

قد يعجبك ايضا