(( زاوية ضيقة ))

عدنان باوزير
أحياناً بل غالباً ما يجعل الانغلاق الثقافي صاحبه مثاراً لسخرية الغير,ويسبب لك الكثير من الحرج , بل ربما قاده إلى كوارث لا تحمد عقباها , خصوصاً إذا داخله شيء من الشوفينية , وخالطته العنصرية المقيتة , عموماً النظرة الأحادية تجاه الآخر شيء معيب في المجمل , ويحضرني الآن مثل شعبي حضرمي عندنا في اليمن ربما يخدم هذا السياق , يقول المثل (فلان فتّح وشاف الديك) , وفتّح هنا بتشديد التاء ,المقصود بها فتّح عيونه وليس شيئاً آخر ! قصته باختصار شديد أن شخصاً ولد أعمى منذ الصغر وشب وكبر على ذلك , وفي يوم من الأيام , فجأة عاد إليه البصر لثوان, فلمح أمامه ديكاً ,عرف الديك من صوته قبل أن يعود إليه عماه من جديد , فأصبح ذلك الديك هو المعيار الوحيد الذي يقيس عليه كل شيء في الحياة , خصوصاً للأشياء التي لا يعرفها ولم يتحسسها يوماً بيده , مثلاً يسمع أن فلاناً عاد إلى البلد بالطائرة , فيسأل أيه يعني طائرة ؟ يقال له طائرة يعني طائرة , فيقول أعرف ولكن كيف هي بالنسبة للديك أصغر أو أكبر من الديك , ملونة أم غير ملونة , وهكذا الأمر مع باقي الأشياء , وهذا شيء قطعاً لا يعيب ذلك الشخص بقدر ما يعيب تلك الثقافة , التي تربى عليها وأنتجت وكرست لديه ذلك الفهم الخاطئ , وهو من الأخطاء الإنسانية الشائعة والقديمة جداً , فنرى مثلاً قدماء الفراعنة عندما كتبوا عن حروبهم في بلاد الرافدين,أسموا العراق بلاد الأنهار المقلوبة ! لأن نهري دجلة والفرات ينبعان من الشمال إلى الجنوب , بينما نهرهم النيل ينبع من الجنوب إلى الشمال , مع أن الواقع عكس ذلك تماماً فكل أنهار الشرق , بل أغلب أنهار العالم تنبع من الشمال للجنوب , ويمكن من الاستثناءات القليلة نهر العاصي في لبنان , وكنتيجة لشذوذه عن هذه القاعدة جاء اسمه العاصي , وبالمناسبة ما زال كثير من المصريين أسرى هذه الثقافة منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة إلى الآن , ثقافة التعامي عن الآخر , أو رؤيته في أحسن الأحوال لكن بخلاف حجمه الواقعي , ونرى أن العربي يسمي عموماً غير الناطق بالعربية بالأعجمي , حتى لو كان ذلك العربي لا يستطيع أن يقول كلمتين على بعضهما بلغته ,وحتى لو كان ذلك الآخر هو شكسبير , وقد استخدم القرآن الكريم هذه التسمية وغيرها لأنها كانت قد ترسخت في أذهان القوم , أصحاب هذه الثقافة , ونجد نفس العربي ذاته لا يرى قيم حميدة أخرى إلا في نفسه هو وليس في الآخر , أي آخر , كالشجاعة والكرم والنخوة , وأشياء أخرى يحبها جداً كالقوة الجنسية مثلاً , حتى وأن كان العرب قد أصبحوا في الواقع من كبار المستوردين للفياغرا , وصارت أغلب تلك الكلمات مجرد مفردات في صفحات المعاجم اللغوية وليس في الواقع المزري الذي نعرفه جميعاً , وقد تأخذ هذه الثقافة منحى تراجيدياً خطيراً إذا ما اتصلت بالدين أو بالعرق أو بالجنس أو خلاف ذلك من أشكال التمييز , فنجد مثلاً أن الجماعات السلفية , لا ترى إلاَّ نفسها , وتؤمن إيماناً قطعياً أنها هي , وهي فقط الفرقة الناجية عند المسلمين , وأن باقي المسلمين ومعهم كل الديانات الأخرى كفار , ولك أن تتخيل ما يترتب على مثل هذه النظرة غير السوية من مآسٍ وكوارث .

قد يعجبك ايضا