
إحدى أكثر الظواهر الفنية استعصاء على الفهم والتفسير هي ظاهرة فينسنت فان غوخ. فقد أصبح هذا الرسام رمزا للعظمة الفنية وتحول من رائد للرسم الحديث إلى أحد أهم رموز الثقافة المعاصرة.
حياة فان غوخ تحولت بعد موته إلى أسطورة وفقره وتشويهه لنفسه ومن ثم انتحاره إلى لغز. وبات الكثيرون ينظرون إلى قصة جنونه بما يشبه الاحترام والقداسة.
وفي تلك المناسبات النادرة عندما تكون إحدى لوحات فان غوخ مطروحة للبيع في المزاد فإنها تكسر الأرقام القياسية وتحصد عشرات الملايين من الدولارات. ومع ذلك فإن اللوحة الوحيدة التي قيل إنه باعها أثناء حياته حققت له حوالي عشرين دولارا فقط.
قبل ربع قرن بيعت إحدى لوحات سلسلة عباد الشمس بمبلغ 40 مليون دولار وأزهار السوسن بـ 53 مليون دولار. كما اشترى ملياردير ياباني يدعى ريو سايتو بورتريه الدكتور غاشيه بمبلغ 83 مليون دولار. وكان وكيل المليونير قد قال بأن موكله سبق وأن رأى اللوحة في متحف المتروبوليتان ووقع في حبها من النظرة الأولى.
والغريب أن سايتو أوصى بأن تحرق اللوحة وتدفن معه عندما يموت. ومنذ وفاة هذا المليونير الياباني الغريب الأطوار عام 1996 اختفت اللوحة تماما ولا أحد يعرف إلى الآن ما الذي حل بها. ويبدو أن سايتو يؤمن بقاعدة “أحرق ما تحب وأحب ما تحرق”. وإحراق لوحة أو حتى بيت قد يكون أعلى درجات حب التملك.
رسم فان غوخ بورتريه الدكتور غاشيه في يونيو من عام 1890 أي قبل انتحار الرسام بشهر ونصف. والبورتريه يصور طبيبه الخاص وهو يسند رأسه على يده بينما يمسك بيده الأخرى حافة الطاولة التي يستقر فوقها كتابان وزجاجة تحتوي على نبات علاجي.
كل جزء من هذه اللوحة مشحون بالمعنى. كما أنها تضج بالإيقاعات الثقيلة وضربات الألوان الجريئة التي تميز فان غوخ. وتعبيرات غاشيه الحزينة ليست سوى انعكاس لحزن فان غوخ نفسه بينما يرمز النبات لتخصص الطبيب.
المعروف أن اللوحة خضعت للترميم مرتين في الخمسينات وهو أمر أسهم في خفض قيمتها وفقدانها معظم خصائصها إذ لا يظهر فيها سوى جزء يسير من آثار فرشاة وأسلوب فان غوخ المتفردين.
أثناء حياته لم يكن باستطاعة الرسام بيع أي من أعماله. وفي الوقت الذي انتحر فيه وهو في سن السابعة والثلاثين كانت لوحاته تعتبر بلا قيمة أو أهمية.
لكن في ألمانيا كان ينظر إلى فان غوخ كبطل نيتشوي. كانت لوحاته “تصرخ في رعب إلى السماء مؤذنة ببداية عصر جديد يحل فيه الفن محل الإيمان” على حد وصف احد النقاد هناك.
وقبل الحرب العالمية الأولى كان الألمان يعرفون فان غوخ جيدا. وكانت أعماله تعرض في عدد من متاحفهم. وهناك منهم من درس وحلل أعماله في سياق سياسي. كما نشأت هناك طائفة تبجله وتقدس فنه.
أسعار لوحات فان غوخ القياسية يضعها البعض في سياق الرواج الأوسع الذي تحققه أعمال الفن الحديث. فقد بيعت لوحة الصرخة لـ إدفارد مونك قبل أقل من عام بمبلغ 120 مليون دولار. وإذا كان هناك مؤشر ما لما حدث فهو أن حمى اللهاث وراء الفن الحديث لا يبدو أنها تتراجع أو تخف.
في أحد أيام شهر يوليو من عام 1890 أطلق فان غوخ النار على نفسه من مسدس صغير. وقد أخطأت الرصاصة قلبه وبقي يومين في حالة غيبوبة إثر معاناته من نزيف دموي وعدوى لم يعالجا في حينه الأمر الذي يثير الشكوك حول براعة غاشيه الطبية.
ومنذ رحيله أثيرت الكثير من الأسئلة والشائعات عن فينسنت وعن حياته وموته من قبيل ما يقال الآن عن أن موته المفاجئ لم يكن انتحارا وإنما نتيجة حادث مدبر. لكن مما لا شك فيه أن تمجيد فان غوخ ورفعه إلى مستوى القديسين والأبطال رافقه بالتوازي اختفاء صورة الإنسان الحقيقي الذي ابتلعته الأسطورة.