(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، يأتي الحجاجُ رِجَالًا إلى الحجِّ وغزَّةُ تُغْتَصَبُ، فالحجُّ عَرَفَةُ والجهادُ في غزَّةَ فَرِيضَةٌ، فيا عبادَ اللهِ وحجَّاجَ بيتهِ: هل من عَارِفٍ باللهِ مُشْفِقٍ من عذابِهِ، مُؤَدٍّ لِفَرَائِضِهِ؟
فإنَّ مَن عَرَفَ اللهَ عَرَفَ الحقَّ واتَّقَى الربَّ وخشيه، فمَن ذَكَرَ اللهَ ذَكَرَهُ، ومَن اسْتَغْفَرَهُ غفر له، فصَفَا له العيشُ، وطَابَتْ له الحياةُ، واطْمَأَنَّ قلبهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
فما أروعَ اجْتِمَاعَ الذِّكرِ والجهادِ والِاهْتِمَامَ بهما من قبلِ الحجَّاجِ! فمَن عَرَفَ اللهَ سَلَكَ سبيلَهُ، وأدَّى فرائضَهُ.
وقديمًا قيل: مَن كانَ باللهِ أَعْرَفَ كانَ من اللهِ أَخْوَفَ.
ولهذا كان النبيُّ الكريمُ أَعْرَفَ باللهِ العليِّ العظيمِ، وقد جاءَ في الحديثِ النبويِّ: “أَنَا أَعْرَفُكُمْ باللهِ وأَشَدُّكُمْ له خشيةً”.
فمَن أَنِسَ باللهِ وافْتَقَرَ إليهِ وتَوَاضَعَ لهُ واسْتَغْنَى بهِ وتَوَكَّلَ عليهِ، جعلَ اللهُ له فَرَجًا ومخرجًا، فاتَّسَعَ له كلُّ ضيقٍ، وانْفَرَجَ عنه كلُّ مضيقٍ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)، وسعى للجهادِ في سبيلِهِ من أجلِ إِحْقَاقِ الحقِّ وإرضاءِ الربِّ وإنقاذِ المستضعفينَ منَ الخلقِ.
فمَن عَرَفَ اللهَ اسْتَجَابَ لأمرِهِ وأدَّى فرائضَهُ كاملةً، وكانَ في يومِ الحجِّ الأكبرِ في حجَّتِهِ في عرفاتَ معَ الحجَّاجِ في عِزَّةٍ وابْتِهَاجٍ، يَدْعُو اللهَ للمجاهدينَ بالنصرِ، وعلى الظالمينَ بالهلاكِ.
وعَرَفاتُ: مَوْقِفُ الحُجَّاجِ في تَاسِعِ ذِي الحِجَّةِ بِبَطْنِ نُعْمَانَ، سُمِّيَتْ عَرَفاتٌ قِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَتَعَارَفُونَ فِيهِ في يَوْمِ عَرَفَةَ، أَوْ لِتَعَرُّفِ العِبَادِ إِلَى اللهِ بِالعِبَادَاتِ وَالأَدْعِيَةِ فِيهِ، أَوْ لِتَعَارُفِ آدَمَ وَحَوَّاءَ فِيهِ كَمَا قِيلَ.
فَعَرَفَةُ مَوْطِنُ اجْتِمَاعِ الحُجَّاجِ جَمِيعًا فِيهِ في التَّاسِعِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الحَجُّ عَرَفَةُ»، «وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ»، «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجَّ».
وَإِذَا كَانَ اليَوْمُ عِنْدَ العَرَبِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ وَقْتِ طُلُوعِ الفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ. إِلَّا أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يُعْتَبَرُ الوُقُوفُ فِيهِ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ. وَقِيلَ: مِنْ فَجْرِ عَرَفَةَ إِلَى فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَتَبْدَأُ الإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى مِنًى مِنْ غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ. فَهُوَ يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمُ الدُّعَاءِ، وَيَوْمُ الذِّكْرِ، وَيَوْمُ الإِخْلَاصِ، وَيَوْمُ الصَّرْخَةِ في وُجُوهِ الظَّالِمِينَ فَالْحَجُّ لَيْسَ طُقُوسًا بَلْ ثَوْرَةٌ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَعِبَادَةٌ خَالِصَةٌ لِلرَّحْمَنِ، فَلَا رَفَثَ فِيهِ وَلَا فُسُوقَ وَلَا عِصْيَانَ، بَلْ هُوَ يَوْمٌ يُعَظَّمُ فِيهِ الرَّحْمَنُ، وَيَلْجَأُ النَّاسُ إِلَى خَالِقِهِمْ بِالدُّعَاءِ، وَفِيهِ يَشْعُرُ المُسْلِمُ بِوَحْدَةِ المَعْبُودِ، وَوَحْدَةِ الأَصْلِ، وَوَحْدَةِ أَهْدَافِ الأُمَّةِ، وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللهِ: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فَهُوَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ المَلَايِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ، يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الأَسْوَدِ وَالأَبْيَضِ وَالأَحْمَرِ، وَالمُهَنْدِسِ وَالطَّبِيبِ وَالفَلَّاحِ وَالعَالِمِ وَالجَاهِلِ، جَمَعَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ مُوَحَّدِينَ في لِبَاسٍ وَاحِدٍ، وَمُوَحِّدِينَ لِلَّهِ الوَاحِدِ، جَمَعَ بَيْنَ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ إِلَى شُهُودِ تَقْدِيرِهِ لِيَتَخَلَّصُوا عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّفَرُّقَةِ وَالشَّقَاءِ، فَيَطِيبُ عَيْشُهُمْ، وَيَسْعَدُونَ في حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ، وَيَنْصَرِفُونَ مَغْفُورًا لَهُمْ.
فَيَوْمُ عَرَفَةَ هُوَ يَوْمٌ تُغْفَرُ فِيهِ الذُّنُوبُ، وَتُسْتَجَابُ فِيهِ الدَّعَوَاتُ، وَيَنْتَصِرُ الإِنْسَانُ عَلَى شَهَوَاتِهِ وَأَنَانِيَّتِهِ، وَعَلَى الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَفِي الحَدِيثِ النَّبَوِيِّ: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرَ وَلَا ادْحَرَّ وَلَا أَحْقَرَ وَلَا أَغِيظَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا يُرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ وَتَجَاوُزِ اللهِ عَنِ الذُّنُوبِ العِظَامِ إِلَّا مَا أُرِيَ يَوْمَ بَدْرٍ».
فَيا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ الْوَاقِفَةَ عَلَى صَعِيدِ عَرَفَاتٍ، إِنَّ غَزَّةَ تَنْتَظِرُ قُدُومَكُمْ لِتَحْرِيرِهَا! فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ الصَّهَايِنَةُ دِمَاءَ الْأَبْرِيَاءِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ يَغْسِلُ الذُّنُوبَ؟
فَالْحَجُّ لَيْسَ مَوْسِمًا لِلسِّيَاحَةِ وَالْعِصْيَانِ، وَإِنَّمَا عِبَادَةٌ لِلرَّحْمَنِ وَثَوْرَةٌ عَلَى الطُّغْيَانِ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِمَنْهَجِ الشَّيْطَانِ.
فَيا حُجَّاجَ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ: هَلُمُّوا إِلَى الْجِهَادِ فِي غَزَّةَ، وَاعْمَلُوا بِمَا قَالَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ. فَلَقَدْ كَانَ لِخُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي يَوْمِ عَرَفَةَ الْأَثَرُ الْكَبِيرُ؛ إِذْ قَرَّرَ فِيهَا قَوَاعِدَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ، وَهَدَمَ فِيهَا قَوَاعِدَ الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ، وَقَرَّرَ فِيهَا تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي تَتَّفِقُ عَلَيْهَا الْمِلَلُ، وَهِيَ: الدِّمَاءُ وَالْأَمْوَالُ وَالْأَعْرَاضُ.
وَنَحْنُ حِينَمَا نَتَذَكَّرُ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالْحُجَّاجَ يَتَضَرَّعُونَ إِلَى خَالِقِهِمْ، نَتَذَكَّرُ مَا يُجْرِي فِي غَزَّةَ مِنْ سَفْكٍ لِلدِّمَاءِ، وَقَتْلٍ لِلْأَنْفُسِ الْبَرِيئَةِ، وَالَّتِي تَجَاوَزَتْ ٥٤٥١٠ أَلْفَ شَهِيدٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ١٢٤٩٠١ أَلْفِ مُصَابٍ مُنْذُ ٧أُكْتُوبَرَ الْعَامَ الْمَاضِي. وَهَذَا أَمْرٌ تَكَادُ تَنْشَقُّ لِهَوْلِ قُبْحِهِ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ لَهُ الْجِبَالُ هَدًّا. أَلَا يُثِيرُ ذَلِكَ حَفِيظَةَ أَحْرَارِ الْعَالَمِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْحُجَّاجِ؟! وَكُلُّ إِنْسَانٍ يُحْتَرِمُ آدَمِيَّةَ الْإِنْسَانِ وَيُؤْمِنُ بِحُقُوقِهِ.
إِنَّ صَرَخَاتِ المُؤْمِنِينَ وَدُعَاءَ الحُجَّاجِ وَاجْتِمَاعَهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ سَفْكِ دِمَاءِ الأَبْرِيَاءِ فِي غَزَّةَ سَيَتَحَوَّلُ إِلَى بُرْكَانِ غَضَبٍ يَلْتَهِمُ الكِيَانَ اليَهُودِيَّ الغَاصِبَ المُعْتَدِيَ عَلَى فِلَسْطِينَ، وَأَنَّ الأُمَّةَ الإِسْلَامِيَّةَ فِي مُخْتَلِفِ أَصْقَاعِ الأَرْضِ مَدْعُوَّةٌ إِلَى إِعْلَانِ الجِهَادِ فِي يَوْمِ الحَجِّ الأَعْظَمِ، وَإِلَى جَمْعِ المُسَاعَدَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ المَالِيَّةِ وَالعَسْكَرِيَّةِ لِشَعْبِ فِلَسْطِينَ المَظْلُومِ؛
مِنْ أَجْلِ كَسْرِ شَوْكَةِ الِاحْتِلَالِ الصِّهْيَوْنِيِّ، الَّذِي هُوَ فِي طُغْيَانِهِ مُسْتَمِرٌّ فِي تَطَاوُلِهِ عَلَى العَرَبِ وَالمُسْلِمِينَ، وَحَتَّى عَلَى كُورِيَا وَرُوسِيَا وَالصِّينِ. وَالأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ مُمارَسَاتِ اللُّوبِي الصِّهْيَوْنِيِّ بِمُساعَدَةِ أَمْرِيكَا كَدَوْلَةٍ، تُصِرُّ عَلَى قَتْلِ الأَبْرِيَاءِ وَاسْتِعْبَادِ طَائِفَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي فِلَسْطِينَ، وَتَهْدِمُ دِيارَهُمْ، وَتَغْتَصِبُ أَرْضَهُمْ، وَتَمْضِي فِي صُنْعِ القَنَابِلِ النَّوَوِيَّةِ مِنْ أَجْلِ تَدْمِيرِ خَيْرِ البَشَرِيَّةِ.
وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تُحَرِّمُ صُنْعَ القَنَابِلِ عَلَى إِيرَانَ، فَبِأَيِّ حَقٍّ يُعْطُونَ أَنْفُسَهُمْ حَقَّ تَصْنِيعِ السِّلاحِ النَّوَوِيِّ وَيُحَرِّمُونَهُ عَلَى إِيرَانَ وَغَيْرِهَا مِنَ البُلْدَانِ الَّتِي لَا تَتَّبِعُهُمْ فِي سِيَاسَاتِهِمْ؟! إِنَّهُ الِاسْتِعْلَاءُ وَالفَسَادُ وَالعُنْصُرِيَّةُ القَبِيحَةُ.
لَقَدْ دَفَنَ الْإِسْلَامُ الْعُنْصُرِيَّةَ، وَقَانُونَ اسْتِعْبَادِ الْإِنْسَانِ لِأَخِيهِ الْإِنْسَانِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَنَّ إِيرَانَ وَغَيْرَهَا مِنَ الدُّوَلِ الْإِسْلَامِيَّةِ مُطَالَبَةٌ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنْ تَرُدَّ الصَّاعَ صَاعَيْنِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَنْ أَحْرَارَ الْعَالَمِ وَرِجَالَ الْفِكْرِ وَأَصْحَابَ الْكَلِمَةِ الْحُرَّةِ مَدْعُوُّونَ إِلَى اتِّخَاذِ مَوَاقِفَ عَمَلِيَّةٍ عَلَى مُخْتَلَفِ الْأَصْعِدَةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِيُمْنِ الْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي تَدُكُّ أَوْكَارَ الصِّهْيَوْنِيَّةِ الْمُسْتَبِدَّةِ فِي فِلَسْطِينَ بِصَوَاخِيدِهَا وَطَائِرَاتِهَا، فَالْقُوَّةُ لَا تُرَدُّ إِلَّا بِالْقُوَّةِ، وَالْحَدِيدُ لَا يَفُلُّهُ إِلَّا الْحَدِيدُ، فَنُصْرَةُ الْحَقِّ وَرَدُّ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِمِثْلِهِ حَقٌّ يُقِرُّهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ:
(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)، (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).