قراءة في أولويات مرحلة فاصلة

أخيراٍº بعد مخاضُ عسير وتأخر غير موفق مطلقاٍº تنفس اليمنيون الصعداءº وخرجت حكومتهم من معضلة بحث شاقة وأزمة رئاسة طال انتظارهاº لتبدأ للتو مهمة تشكيل أصعب لا مجال لتأخيرها!
يْجمع المراقبون أن كل هذا التأخير في اختيار رئيس الحكومة لم يكن لائقاٍ بمرحلةُ مفخخة لا تحتمل التعطلº ولا ينم عن تقدير لعواقب الفراغ والتفلت وإهدار المزيد من الوقت!
لكن نظراٍ لخصوصية الوضع اليمني وتعقيدات شراكةُ متنافرة كهذهº تقبل الناس مبرر التأخير على مضض لعل (في التأني السلامة) او كما يردد اليمنيون “كل تأخيره وفيها خير”!
فثمة وضع مؤهل للانفجار يتطلب دقة اختيارº وأكبر قدر من التوافق حول هذه التشكيلةº لضمان حكومة مستقرةº تكون أكثر انسجاماٍ من سابقتها.. لم يعد ثمة متسع من الوقت والأعصاب لتجريب حكومة غير متناغمة.. الحاجة فقط لكثير عمل وتركيز بلا إرباكات والدخول في صراع مع الزمن فحسب لتحقيق نتائج ملموسة في وقت قياسي!
تؤكد مؤشرات الوضع الراهن أن مهمة حكومة المهندس خالد بحاح لن تكون سهلة بالمطلق قياساٍ بحجم الملفات العالقة التي ورثتها.. ستجد نفسها أمام أجندة ثقيلة من التحديات المتشابكة والملفات الشائكة على رأسها: وضع أمني متفلتº اقتصاد منهارº ثارات سياسية دستور عالقº انتخابات حتميةº مخرجات حوار معرقلة. ودولة مدنية لابد منها وخلطة وضعُ سياسيُ وعسكري محبط!!
تلك عناوين رئيسية فقط مرتبطة بشبكة تفرعات معقدة وتفاصيل أكثر تعقيداٍ..
– فثمة قلق أمني وعسكري غير مسبوقº شمالا وجنوباº بحاجة لإعادة النظر في أخطاء الهيكلة وحماية المواطن والجندي وتأمين حياة بعض المكونات من مخاوف الحسابات المجنونة!
– وثمة علاقة ملتبسة بين السلاح الحكومي والسلاح “الشعبي” المساندº بحاجة لفض الالتباس فوراٍ.
– فضلاٍ عن اقتصاد على حافة انهيار لم تسعفه منح خارجيةº أو جرع غير محسوبةº أو يسلم من الاستنزافº يحتاج موارد عاجلة وقبضة تصريف رشيد ومكافحة فساد ملحة..
– وأمامك أيضا دولة منهِكة كلياٍº بحاجة لالتقاط أنفاسها وشد أزرها.. عوضاٍ عن مطلب دولةُ مدنية حديثة على قارعة الانتظار الطويلº يرتبط بناؤها بثلاث ركائز عاجلة: سرعة إقرار دستورها الجديدº وبدء تطبيق مخرجات حوار ومهمة تحضير مضنية لانتخاباتُ وشيكةº رئاسية وبرلمانية- محلية أو اتحادية كحل نهائي ينظم حق التداول ويحسم دوامة صراع مزمنة وجدل نزاع مدمر!
تدرك حكومة بحاح جيداٍ أن كل هذه الملفات لها أولوية قصوى على رأس جدول أعمالها.. فيما لا يبدو أمامها متسع من الوقت لكل ذلكº طالما هي حكومة انتقالية فحسب..
هي مهمة صعبة للغاية لاشك في ذلك.. لكنها بالتأكيد لن تكون مستحيلة ولا أصعب من حكومة2012º إذا تْركت تعمل.. بإمكانها أن تنجز الكثير هذه المرة.. الفرصة مهيأة.. والشواهد على ذلك عديدة:
– أولها أن هناك متغيرات جديدة وتوازن قوىٍ- إيجابي- يبدو أنه سيكون ملائماٍ وسانداٍ لتسيير أعمالها بعد أن بْليت سابقتها بتوازن ضعفُ لم يخدم البلد مطلقاٍº وتوافقُ هشº أحرج هيبة الدولة!
– ثانيها أن هذه الحكومة على ما يبدو لن تتحمل وحدها كل تلك الملفات.. إذ لا يمكن أن تنجح في إدارتها مالم يتم توزيع المسؤوليات والمهام فيما بينها وبين المؤسسة الرئاسية العليا حتى تركز على مهمتها الرئيسية وهذا التوزيع يمكن قراءته بوضوح من ملاحظة شكل رئاسة الحكومةº وطريقة توزيع الحقائب.
فبنظرة دقيقة الى معايير اختيار المهندس خالد بحاح يتضح أن مهمة الحكومة الجديدة ستكون اقتصادية بالدرجة الأولى بدليل استبعاد مرشحين ذوي خلفية سياسية وعسكريةº أكاديمية وعلميةº حزبية ومدنيةº جهوية وخارجية وغيرهاº لم يتم التوافق حولها.. فيما تم الإجماع على وزير نفط سابقº ذي خلفية مالية وإدارية واقتصادية تخصصيةº كما يبدو من سيرته الذاتيةº اذا استبعدنا المعيار الجهوي.. مايعني أن المهمة الرئيسية لحكومة اللحظة ستكون اقتصادية بامتياز..
فضلاٍ عن اشتراط أن يكون مستقلاٍ وحكومته مهنية بالكامل وهذا مؤشر على مهمة إصلاحات متوقعة وقرارات حازمة ستكون فيها إدارة نظيفة للمواردº ونأيَ بالمال العام والوظيفة العامة بعيداٍ عن أطماع محاصصةُ جائرةº أضعفت القرار وأفرغت الخزينة!!
هكذا تبدو مهمة حكومة بن محفوظ.. فيما المهمة الأمنية والعسكرية – كما يبدو- ستتحمل قسطها الأكبر المؤسسة الرئاسية.. بدليل إسناد الحقائب السيادية لحصة الرئيس هاديº وعلى رأسها حقيبتا الدفاع والداخلية ما يؤكد أننا سنكون أمام قرارات رئاسية متحررة من الضغوط وإجراءات حازمة أمنيا وعسكرياٍ لا تحتمل انتظار توافق الفرقاء وجدل التوازنات العقيم أو ترضيات متخلفة أثبتت فشلها الذريع بسبب تجاذبات ولائية حادة قصمت ظهر مؤسستين سياديتين حساستين كان يجب تحييدهما عن صراع المحاصصة!
بتقاسمُ كهذا- بين الأمني والاقتصادي- مؤكد أن العلاقة بين الحكومة ورئاسة الدولة ستكون في أفضل أحوالها على عكس العلاقة السابقة.. سيما بعدما تقلصت بعض مراكز النفوذ التي كانت تنازع المؤسستين الرئاسية والحكومية قرارهما.
كذلك أداء أعضاء الحكومةº سيكون أفضل حالاٍ هذه المرة.. لأنها بتشكيلتها المهنية الخالصة ستبدو متحررة من عقدة ولاءُ حزبي بغيض أوصل سابقتها لأسوأ خاتمة.. وسيبدو نجاحها أكثر إمكاناٍ إذا تم الاشتغال بالضرورة على عنصر الانسجام الذي افتقدته سابقتهاº وضمان التناغم..
مثل هذا الانسجام بات ممكنا أكثر من ذي قبل.. غير أنه لن يتم إلا في حالة واحدة: إذا تم تغيير نظرة الارتياب وحالة التجاذب الحادة بين الشركاء تجاه بعضهم وكسر حاجز الثقة الذي تعمق بفعل المتغيرات المذهلة التي فرضت طرفين على حساب أطراف أخرى (أنصار وحراك) بحيث يتم التعامل مع المعادلة الجديدة كأمر واقع فرضته خصوصية البلد ومرغمات التعايشº ولو بأقل قدر من المكاسب الذاتية طالما قرر الطرف المتضرر امتصاص الضربة بحكمة غير مسبوقةº جنبته مآلاتُ لا يحمدها أحد.
من المهم جداٍ الانتباه أيضاٍ إلى أن اختيار رئيس الوزراء الجديد جاء من خارج دائرة الصراعات التاريخية ولوبي المصالح التقليدية.. فحتى نتجاوز صورة الماضي المتجعدة ونقدم وجهاٍ جديداٍ لليمنº من المهم أن يكون دم الحكومة جديداٍ.. أما وهو في مقتبل خمسينيات العمر فذاك مؤشر دامغ على أننا سنكون إزاء مرحلة جديدة كلياٍ ورؤية شابة في إدارة البلد.
ثمة إضافة أخرى لوجود بحاح على رأس حكومة فقد جاء على خلفية علاقة قوية تربطه بالقطاع الخاص وبعض كبار المستثمرين في الخليج.. علاقة كهذه ستطمئن ستطمئن الاقليم وتصب في خدمة الأوضاع الاستثمارية المنهارة لتجر وراءه قاطرة متوقعة من مستثمري الخليج والرساميل الحضرمية والجنوبية.
فضلاٍ عن أن الرجل ترك صفحة بيضاء في وزارة النفط تؤكد أننا أمام مرحلة أكثر جدية.. فسيرته تتجاوز الانضباط والصرامة وخبرة التعامل مع موظفيه ومع تشعبات وزارته الكبيرةº إلى تسجيل مواقف شجاعة لم يكررها غيره عندما أصر على استقالته مرتين من الوزارةº احتجاجاٍ على ضغوط قوى نافذة لم يتصادم معها بقدر ما انسحب هادئاٍ ليقدم نموذجا مشرفا في تحمل المسئولية بشرف ويعيد إلى الذاكرة الجمعية سيرة عطرة لشخصيات نقية خلد ذكرها عدم التشبث بالمناصبº فأحبها الناس.. فرج بن غانم وفيصل بن شملان- نموذجاٍ!
كل تلك المؤشرات المطمئنة يمكنها أن تبدد صورة متشائمة يرسمها البعض للحكومة القادمة بسبب التناقضات الراهنة لن يكون هناك مايستدعي القلق إذا خلع البعض نظارته السوداء وتصافحت الأيادي بحرارة وتعاون اليمنيون مع حكومتهم الجديدة في الدوس على الألم إلى حين اجتياز النفق الموحش ليساعدوا أنفسهم أولا وينتشلوا مجتمعهم من مستنقع صراع لا يحسدهم عليه أحد ويسلموا أمانة بلدهم لأجيال جديدة تقرر مستقبلها مالمº ستلعنهم الأجيال في أصلابهمº عاجلاٍ أم آجلاٍº إن تركوا لهم وطناٍ بهذه الشواهة!

قد يعجبك ايضا