
لعبدالرحمن بجاش الصحفي والكاتب علاقته بالكاميرا لكنه لا يتماهى معها بالحس الصحفي أكثر مما يتماهى معها في عوالم الحس الجمالي. وربما يعود إليه الفضل في عشقي للتصوير الفوتوغرافي ومتابعتي لهذا الفن بعد العزيز عبدالرحمن الغابري.
قلت مرة أن التصوير لدى عبدالرحمن بجاش أشبه ما يكون ب «القبض على اللحظة» وهي فعلا حالة من الاقتناص للجماليات والمشاهد واللقطات المفكرة وتثبيتها كما لو كان تثبيتا للزمن عند نقطة معينة أو القبض على اللحظة الزمنية البصرية ووضعها في إطار عادة ما يكون هذا الإطار أفقا لا سجنا.
في الفن الفوتوغرافي تصبح هذه القيمة إشكالية بحد ذاتها إن فنيته تعتمد أساسا على هذه الحالة من تثبيت الأشياء في أطر وهي عند البعض نافذة لنقد هذا الفن إذا ما قلنا أن اللحظة يجب أن تسير باتجاه نفسها حرة ومنطلقة لكن لا شيء يشبه متعة العين وهي توقف الزمن الأشياء الكائنات الحركة إنه فن يخالف كل الفنون ذلك أنه لا يوثق للأشياء في حالات ما بقدر ما يستكنه جوهرها ما ورائية المشهد البصري العمق.
بين الفنان والهاوي أو المصور العادي خيط رفيع فأن تسجن اللحظة جافة جامدة لا لغة في ألوانها ومكوناتها فأنت مصور لكن أن تلتقط صورة لكائن حي فيظل حيا في الصورة أو مشهد فيظل متدفقا في الإطار فأنت فنان هكذا يفعل عبدالرحمن بجاش الفنان وهو يلتقط صورة للأشياء كما لو كان يحتفظ بكل مكوناتها حية متحركة بما في ذلك النبض النبض حيوية المشهد.
عدسة الفنان عينه حسه الجمالي وهكذا يمكنه أن يدرك ما هو عصي على الإدراك العادي بل ربما يمكنه أن يجعل من الأشياء ما لا تستطيع أن تكونه إلا في لحظة فارقة على المصور الفنان أن يقتنصها لأنها لا تتكرر ولا ترى ببساطة بعين سطحية بل عين تنفذ إلى الداخل الجواني في الأشياء.
قد يقال أن الفن الفوتوغرافي: ضد الحركة لكنه في المقابل ضد النسيان ضد الزوال ضد التلاشي إنه بمعنى من المعاني ضد الموت. وهنا أجدني بحاجة إلى استعادة قصة كنت قد سردتها في مقام مشابه:
في مسرحية هنريك إبسن (الورقة الأخيرة) كانت حياة الحبيبة ترتبط بشكل من الأشكال بأوراق الشجرة التي تقف خلف نافذة غرفتها وبما أن العاصفة قد هبت وبدأت تعصف بالشجرة فتوالى سقوط أوراقها إلى أن كادت أن تنتهي وكان لزاما على البطل أن يكافح من أجل ألا يدخل اليأس إلى قلب المحبوبة لقد كان في معركة مع الموت (العاصفة موت الحبيبة) وكافح من أجل أن يحصل على الألوان والأدوات التي يستطيع بها رسم ورقة على الشجرة ومن ثم كافح من أجل أن يرسمها إلى أن فعل ذلك….
ما يفعله الفنان الفوتوغرافي أحيانا يشبه ما قام به البطل والصورة الفوتوغرافية قد تبدو أحيانا مثل تلك اللوحة (الورقة الأخيرة) إذ أنها انتصار للحياة ضد قوى الموت قد يقال أن الصورة (تقتل اللحظة أو الحركة أو الحياة) ولا يمكن أن تكون بديلا عنها أو أن تكون هي نفسها تماما كاللوحة الأخيرة لكن كلاهما هو تحد واضح للموت مغالبة مكابرة مقاومة مكابدة عناد فإذا لم يستطع أي منهما أن يكون هو الحياة نفسها فعلى الأقل قد كان تجسيدا أو ذكرى أو تخليدا لها لفكرة الحياة نفسها…