الإرهاب الأمريكي ..بداية أفول إمبراطورية..!

طه العامري

 

بمعزل عن كل التداعيات التي تعصف بخارطة العالم من (أوكرانيا) إلى بحر الصين الجنوبي، والمحيط الهادي، وصولا إلى الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، تداعيات مجبولة بسياسة الغطرسة والاستعلاء وسلوكيات إمبريالية متوحشة، تذكرنا تداعياتها العسكرية بثقافة حروب القرون الوسطى الحافلة بالسلوكيات الهمجية والتوحش المجرد من أخلاقيات الحروب ومن القيم والمشاعر الإنسانية، ناهيكم عن أن تداعيات المرحلة يضاف إليها طغيان ثقافة وقحة وخطاب سياسي وإعلامي أكثر وقاحة وبشاعة من وقاحة وبشاعة الحروب العدائية التي تشنها (إسرائيل) برعاية أمريكية-غربية..!

أقول بمعزل عن كل ما يعتمل على الخارطة الدولية من أحداث ودوافعها ومبرراتها والغاية المرجوة منها، فإن ثمة حقائق جوهرية تقف خلف كل ما يجري، أبرزها أن إمبراطورية التوحش التي تقف راعية ومحركة ومهندسة لكل هذه التداعيات الدامية تعيش واقعيا حالة تراجع حضاري ومرحلة ارتداد بعد أن بلغت ذروة تقدمها، وهي النقطة المفصلية التي ما إن تصل إليها أي إمبراطورية بحكم القوة والتطور والتقدم المادي، دون اكتراث للقيم الروحية ودون مراعاة لقيم العدالة الاجتماعية وأهمية ترسيخها في الواقع، فإن هذه الإمبراطورية تكون قد بدأت رحلة التراجع على طريق الانهيار والتفسخ وهذه هي الحالة التي تعيشها أمريكا، التي تحاول التغطية على حقيقة بدء رحلة الانهيار بزعم القوة التي تظهرها مشفوعة بحالة من غطرسة تفتقد العقلانية والوعي والمصداقية واحترام المجتمع الدولي..!

غطرسة أمريكا ليست مرتبطة بمن يحل في البيت الأبيض ولا بمن يكون رئيسها، ولا بهوية إدارتها، غطرسة أمريكا هي حالة حضارية لا بد منها، تعتمدها الدولة العميقة برعاية وتوصية من مراكز دراسات استراتيجية تعمل فيها وهي مسؤولة عن رسم سياسة واستراتيجية الدولة وأجهزتها التنفيذية سواء فيما يتعلق بالداخل الأمريكي، أو فيما يتعلق بسياستها الخارجية وطريقة إدارة علاقتها مع الأصدقاء والأعداء على حد سواء..!

قال وزير خارجية أمريكا الأشهر ذات يوم (هنري كيسنجر) : أن تكون عدواً لأمريكا فهذا امر خطير، وأن تكون صديقاً لأمريكا فهذا أمر كارثي..!!

قال عبارته هذه بعد اضطرار أمريكا للتسليم بهزيمتها في (فيتنام) وقرار رئيسها (نيكسون) بسحب القوات الأمريكية من أدغال تلك الدولة الآسيوية بعد أن فقدت أكثر من (خمسين الفاً) من قواتها الرسمية، ناهيكم عن قوات المرتزقة الذين تجندهم أمريكا بالأجر اليومي، وليس لهم بعد مقتلهم حقوق لديها، لأنها تلزمهم بعقود مسبقة على العمل معها في حروبها بأجور يتسلمونها مقدما وليس عليها أي تبعات قانونية أو أخلاقية بعد مقتلهم..!

أمريكا اليوم لا يحركها (ترامب) ولا إدارته الجديدة، بل هم ينفذون رؤية واستراتيجية ترويكا صناع القرار غير المعلومين والمكونين من علماء دين ورهبان واحبار ورجال المال ودهاقنة السياسة ومن يتحكمون باقتصاديات العالم أو يشكلون مجتمعين ما اطلق عليها بـ(حكومة العالم الخفية)، التي منحت أمريكا فرصة للغطرسة على أمل إعادة التوازن لقدراتها الاقتصادية المنهارة، وبما يمكنها من الحفاظ على مكانتها كقوة عظمى مهيمنة على المسرح الدولي ومتحكمة بأحداثه.

إن أمريكا تحتاج خلال السنوات العشر القادمة أكثر من 10 تريليون دولار لإعادة ترميم وتحديث وتطوير شبكة البنية التحتية، وهي عاجزة عن مواجهة ذلك، لأن الدين العام بلغ أرقاماً مخيفة، وتعتمد في التماسك على (الدولار) كعملة دولية واقتصاد العالم مرتبط بالدولار، وأخطر ما تواجهه أمريكا اليوم من خطر وجودي هو تخلي العالم عن عملة الدولار واعتماد عملات أخرى في التبادلات التجارية والاقتصادية الدولية.. أمريكا اليوم لا تدافع عن الصهاينة ولا عن حلفاء لها، بل تدافع عن وجودها، وترى أن انهيار الكيان الصهيوني يفقدها قدرتها في السيطرة على الوطن العربي وأفريقيا وجنوب آسيا، حيث مناجم الثروات التي تحرك اقتصادها وحيث الأسواق التي تمنحها حرية تسويق منتجاتها وربطها بعلاقة سياسية تصل إلى حد التبعية والارتهان لها، لكل ما سلف فإن غطرسة أمريكا دليل على أنها تعيش في أسوأ مراحلها الحضارية والتاريخية، وتعيش أزمة وجودية غير مسبوقة، ولذلك تريد فرض خياراتها غير المنطقية إن أمكن على الوطن العربي وأفريقيا تحديدا بصورة خاصة وعلى العالم بصورة عامة، لكن يظل الوطن العربي بكل خيراته هو (حبل الإنقاذ السري) الذي تتغذى منه وخاصة ثروات الخليج، لذلك لا تريد منازعاً مقلقاً ولا ثقافة تكتسب تجعل شعوب المنطقة أو أي قوة تتشكل فيها تنازع واشنطن حب السيطرة على خيرات المنطقة..!

إن هذا الجنون الأمريكي والتوحش الذي تعتمده في إدارة قضاياها الداخلية والخارجية، دوافعه اقتصادية بحتة والخوف من (الغول الصيني) هو المحرك لهذا الجنون، لهذا جاءات التطورات الدرماتيكية الأخيرة في المنطقة والتي برزت من تحت غبار حرب غزة، وأجبرت أمريكا على إعادة مواقفها في أوكرانيا ورغبتها في إغلاق هذا الملف من خلال تفاهم مع موسكو، أدى إلى ما أدى من أحداث درامية في سوريا و لبنان وفلسطين، ثم عدوانها على اليمن و(الغمز من قناة إيران) دون مبرر منطقي أو أخلاقي تمارسه أمريكا في طريفة تعاملها مع أحداث المنطقة، لكنها تذهب في مسار واحد هو ضمانة بقائها كدولة عظمى وقابلة على تقاسم النفوذ مع موسكو وليس مع الصين “البعبع المخيف لواشنطن”، ويمكن القول إن تقارب أمريكا مع روسيا يمثل خطوة انتهازية هدفه امتلاك الوقت لترتيب أوراق وانتظار معجزة سماوية تنقذها من مصير مجهول تتجه إليه..!

بيد أن الصفقة التي تمت بين واشنطن وموسكو في أوكرانيا ودفع ثمنها إخواننا في فلسطين ولبنان وسوريا وصولا إلى اليمن، مع محاولة ملتوية تستهدف إيران وملفها النووي عبر إعادة طهران إلى طاولة المفاوضات ومساومتها على برنامجها النووي وقدراتها العسكرية وهو الاتفاق الذي تخلى عنه (ترامب) في رئاسته الأولى، ويريد الآن العودة له ولكن بشروط جديدة لا تقف عند حد البرنامج النووي، بل تتعداه إلى تحجيم إيران عسكريا للحد من صناعتها للطائرات المسيَّرة والصواريخ الباليستية والفرط صوتية والعابرة للقارات، هذه القدرات مطلوب من طهران التخلي عنها حتى ترضى عنها أمريكا، ما لم فإنها الحرب والحرب مع طهران شبه مستحيلة أن تقوم بها أمريكا، لأن مثل هذه الحرب من شأنها أن تحرق المنطقة وفي المقدمة مصالح أمريكا في الخليج والتي قد تعني تفجير وحرق آبار النفط، وهذا هو السيناريو المرعب الذي تخشاه أمريكا، لذا نجدها تمارس -كما يقال- ضرباً تحت الحزام، تارة تتحدث عن (اذرع إيران) وأخرى تتحدث عن (تخلي إيران عن اذرعها) وحصار ودفع الصهاينة لتهديد إيران والزج بأوروبا بهذا المعترك مع طهران عبر الدبلوماسية والحصار الاقتصادي.. لكن كل ما تقوم به أمريكا من َمحاولة إرهاب العالم، ليس أكثر من دليل يعكس حقيقة حالة الانهيار الذي تعيشه والذي يتهدد وجودها.

 

 

قد يعجبك ايضا