قصص ومواقف مؤلمة ترويها البعثات الأجنبية الزائرة لليمن


فقيه وحجرة صغيرة عند باب المسجد في القرية أو المدينة وطلاب من الذكور فقط يتعلمون القراءة والكتابة وقراءة القرآن الكريم, هذا ما كان عليه التعليم قبل قيام الثورة اليمنية, بدائياٍ بسيطاٍ محدوداٍ فاقداٍ لأ بسط مقومات التعليم تنتهي سنوات الطالب الدراسية فيه إذا تمكن من قراءة كل سور القرآن الكريم ( يختم القرآن) والفقيه الذي يتولى تدريس الطلاب فيعينه وجهاء وأهالي القرية أو المدينة ويتقاضى أجره من كل طالب في نهاية كل أسبوعº وأما التعليم في المدارس التي أقامها الإمام في المناطق الشمالية من البلاد فكانت مخصوصة لتعليم أفراد أسرته وأبناء أقاربه (ابتدائية ومتوسطة وعلمية وغيرها) وكان القبول فيها محصوراٍ على فئة اجتماعية محدودة جداٍ ولم يكن يسمح لأبناء عامة الشعب التعلم فيها .

وكان الطلاب الذين يتعلمون في تلك الفترة وهم قلة يتعرضون لأبشع أنواع العقاب والتعذيب في حال ارتكابهم أي خطأ أو في حالة تغيبهم ومن هذه القصص نذكر مفارقة من المفارقات التي سردها نجيب ابو عزالدين في كتابه « عشرون عاما في خدمة اليمن « عن التعليم في تلك الفترة والتي قال فيها : ((عندما بدأت بتدريس اللغة الإنجليزية في دار الأيتام كان مدير الدار يزورني للسؤال عما إذا كنت أريد شيئاٍ وعن سلوك واجتهاد الطلاب, وفي إحدى تلك الزيارات سألني عن سبب تغيب طالبين عن الدرس فأجبته بأنني لا أعلم وإن عليه القيام بتسجيل أسماء الطلاب المتغيبين, ولشدة دهشتي وألمي حضر إلى الصف في اليوم التالي الطالبان المذكوران والقيود الحديدية في أرجلهما, توجهت فوراٍ إلى مكتب المدير وأبديت استيائي من هكذا عقاب ينزل بطالب علم صغير وقلت له أنهم بفعلهم هذا يربون الطلبة ويعدونهم للإجرام وأنني أوافق على معاقبتهم وإنما على طريقة أخرى كمنعهم من الخروج إلى الملعب وإعطائهم دروس وواجبات إضافة يستفيدون منها ويرتدعون عن التغيب مرة أخرى, أفادني المدير أن تقييد الطالبين جاء لأوامر سمو وزير المعارف, ولذلك يحسن ألا أبدي أي اعتراض على ذلك كي لا يستاء سموه مني, أجبته أنه يصعب علي أن أقوم بواجبي في هكذا جو وأن أتخيل نفسي أستاذاٍ لمجرمين من الأحداث الذين لا يتجاوزن سن بعضهم الاثني عشر عاماٍ, يظهر أن المدير أسرع إلى دائرة الوزير وقص عليه ما حصل معي وعن احتياجي على استعمال القيود الحديدية في أرجل طلاب العلم ورجال المستقبل ومن ذاك الحين بدأ سمو الوزير يتعمد وضع العراقيل في طريق عملي وكان يطلب من والده باستمرار تكليفي بمهام إضافية كعقاب لي )) .
« الوضع الصحي «
ولا يختلف الوضع الصحي عن وضع التعليم في عهد الإمامة فقد كانت الأوضاع الصحية متردية جدا وتعاني من ندرة في وجود المستشفيات والمراكز الصحية وقلة الأدوية وضعف التشخيص إضافة إلى ندرة وجود الكوادر الطبية التي حتى وإن وجدت تكون حكرا على الأسرة الحاكمة وذوي الوجاهات وأصحاب النفوذ, وتصف الدكتورة كلودي فاينان في كتابها كنت طبيبة في اليمن أحد المستشفيات الذي دخلته في عهد الإمامة بالقول : ((ذات يوم رافقت الدكتور ريبوليه إلى المستشفى أما الدكتور مروشي فقد رفض الذهاب إليه وأقام في بيته عيادة صغيرة تعلمت فيها أشياء كثيرة وعندما سألته عن السبب في هذا أجاب ببساطة: ( سترين ).. والمستشفى يضم عدة بنايات تتألف كل منها من طابق أرضي وحيد تحيط به ساحة ويعني الدكتور بنحو ثلاثين سريراٍ وعندما وصلنا إلى المستشفى أخرج من حقيبته علبة بها بقايا فطوره وانحنى على الموقد يسخنها لمريض صغير.. إنه يسهر على كل شيء بنفسه وأكثر المواقف تواضعاٍ هنا لا تشين من يقوم بها إذا كانت في سبيل الخير والبر وقد أطعم الطفل وقرأت في وجوه الحاضرين العاطفة المعترفة بالجميل وكان الدكتور ريبوليه يقدم لمرضاه العلاجات الضرورية من عنده فلم يكن في صيدلية المستشفى غير رفين يزودان بالأدوية كل خمسة عشر يوماٍ أما قاعة الجراحة فقد كانت خالية من كل شيء وعندما أردت رؤية حجرات العلاج رفض الدكتور أن يسير معي فمررت عليها بمفردي يتبعني على غير رغبة مني أحد الممرضين.
وقد مررت بها واحداٍ واحداٍ فوجدت نفس المنظر المذهل المفزع: رائحة كريهة السرير عبارة عن قوائم شدت عليها الحبال وليس عليها أغطية.. أجسام هزيلة شبه عارية.. شعروا بوجودي فتحركوا قليلاٍ وحاولوا الوقوف مدوا أيديهم نحوي ارتفعت أصواتهم تتوسل وتتضرع بحرقة وألم لقد كنت شيئاٍ جديداٍ عندهم لقد كنت شعاعاٍ من الأمل رأوه قبل موت لا مفر منه كثيرون منهم مشرفون على الموت.. نظر إلي الممرض وقال: تيفوس.. ولكن كل هؤلاء المرضى جميعاٍ ليس لهم أدوية.. عشر حجرات للرجال على هذا المنوال.. لقد كنت أشعر أني تحت كابوس لعين ولم يدلني أحدا على مقصورة النساء ولكني وجدتها.. حجرات منخفضة لا نوافذ لها.. زرائب بكل معنى الكلمة تمددت فيها النساء الواحدة بجوار الأخرى على أرض قذرة ومع الكثير منهم أطفالهن.. قد يخيل للإنسان أنه يستطيع أن يتصور فظاعة وشناعة كهذه ولكن مشاهدة هؤلاء النسوة في هذه الزرائب أكثر سوءاٍ من كل ما قد يخطر على البال.. لقد قرأت كما قرأ الناس أوصاف معسكرات الإبادة والإفناء ولكني هنا رأيت بأم عيني امرأة تحتضر وهي راقدة فوق برازها رأيتها تنهض وتستند على كوعها وتناولني طفلها المبلل وهي في النفس الأخير تتضرع وتتوسل )).
« انتشار الأمراض «
وأما عن الأمراض التي كانت منتشرة في تلك الفترة فحدث ولا حرج, فقد كانت الأوبئة تنتشر في كل مكان وخاصة في الأماكن النائية وفي الأرياف مثل السل والملاريا وتصف الدكتورة كلودي فاينان إحدى القرى التي زارتها بالقول : (( إن عبال من المناطق الوخيمة المضرة بالصحة مثل كل المناطق اليمنية الواقعة على سفوح الجبال في تهامة, فالصخور تؤدي إلى ركود المياه إلى جانب الحرارة والانخفاض.. كل هذا يساعد على تكاثر وانتشار ذباب الملاريا. وقد أدركت حالة السكان المحزنة المبكية.. فقاماتهم قصيرة, وبطونهم منتفخة وأعضاؤهم ليست إلا هيكلاٍ عظمياٍ, والحمى بادية على وجوههم, وقد فحصت العشرات من المرضى ومنهم بعض النساء اللائي أحضرتهم عجوزا كانت تشجعهن وتدفعهن بقوة, وتنزع ملابسهن وترمقني بطرف عينيها بقلق.. من العسير في العادة الكشف على امرأة عربية لأنها مثقلة بالحياء والخوف والتردد.
إن هؤلاء هم أول مرضاي! وهؤلاء النسوة.. ليس لهن إلا أنا.. فإذا لقين عناية طيبة فقد يشفين ولكن لابد لي من السفر, وسيمتن بكل تأكيد.. وسريعاٍ .. إن الأشياء القليلة التي استطيع أن أتركها لهن لن تغير من الأمر شيئاٍ, ومع هذا فعيون العجوز تتقد حسرة وأملاٍ كما لو كانت, أكثر من الآخرين, تعاني الحالة المفجعة التي تعيشها القرية, وقد فهمت حينئذ هذا التعبير: «الذراع التي يشل قوتها اليأس», فليس هناك ما هو اثقل من يد لا تستطيع أن تقدم شيئاٍ, إنها أثقل من أن يستطيع الإنسان رفعها ووضعها بدون جدوى, فوق هذه البطون الجافة البائسة.
« قلة الأدوية «
وكان في تلك الفترة يعاني المرضي من قلة الأدوية وندرتها بالإضافة إلى ارتفاع أسعارها بشكل كبير حتى ان بعض المرضى كانوا يموتوا بسبب عدم توفر الأدوية وخاصة الأطفال وهنا تذكر الكاتبة كلودي فاينان بعض من القصص المؤلمة بالقول : ((كنت أتناول عشائي في دار الضيافة عندما أحضروا إلى حجرتي طفلاٍ يكاد يختنق ,إنه مصاب بالتهاب حاد في الحنجرة أو بذبحة الزور , وقد أعطيت تعليماتي وطلبت أن يستدعوني إذا ساءت الحال ومرت الليلة وفــي اليوم التالـــي ذهبت لعيــادة مريضتي الصغيرة , وكان قد مات قبل أن يتناول الدواء.
ومضت بضعة أيام واحضروا إلي طفلاٍ ثانياٍ , ولم أعتمد عليهم هذه المرة بل احتطت واشرفت بنفسي وجاءني ممتطياٍ فرساٍ.. ولم أجد مصلاٍ فكتبت إلى الإمام ورجوته أن يستغيث بالراديو إذا دعت الحاجة.. ولكن الإمام لم يرد.
كانت الأدوية التي تحت يدي لا أثر لها , وكان الجراح الدكتور ريبوليه في تعز.. ولم نجد بداٍ , أنا وزميلي ,من أن نجري العملية الجراحية وحاول الأب أن يحمل الطفل على ظهره إلى المستشفى.. ولكن الطفل المسكين قد ساءت حالته ولن يحتمل هذا الوضع وقد وضعته أمامي.. وبرغم عذابه وآلامه فقد أخذ الزمام من يدي وكأنه يقوم بآخر ألعابه ومرحه.. ولكن أنفاسه كانت مأساة محزنة , فقد كان المارة يسبحون ويرفعون أصواتهم بالدعاء إلى الله بل إن بعضهم لحقوا بنا إلى المستشفى ليعرفوا المصير.
وفي المستشفى قطعت الجزء المعقوف من سماعتي وصنعت منها ماسورة للحقنة وامتلأت قاعة العمليات بأنفاس الطفــل اللاهثـة , وكان أحياناٍ ينهك ويستسلم ويهدأ فنظن أنه قد مات.. وبعد (البنج) ببضع دقائق لم نجد أمامنا إلا جثة صغيرة مذبوحة وخيم على القاعة صمت رهيب , ودخل الأب واقترب من ابنه وظل ينظر إليه طويلاٍ كان يظنه ينعم بنوم أو غيبوبة قصيرة ,ولم يجرؤ أحد على أن يذكر له الحقيقة.. وأدرك الأمر فوقع على الأرض يبكي ويصرخ في أسى وحسرة.
كانت الطفلة الأخرى صغيرة في سن السادسة.. هذه المرة حصلنا بمعجزة على المصل فقد وجدنا علبة فيها اثنتا عشرة زجاجة لم تكن قد تلفت , وهذا لا يكفي إلا لمريض واحد ,وقد كلفت الممرض بإعطاء هذه الحقن وذهبت غير قلقة ,وفي اليوم التالي كانت الطفلة قد ماتت.. ما الذي جرى¿ لقد وجدت العلبة ولم يكن قد نقص منها سوى زجاجة واحدة! .. إنها مهزلة ومع ذلك فقد كان لدى الممرض الشجاعة الكافية ليقول لي إن الدكتور فينروني قد أوصى بعلاج آخر!.. واستوضحت الأمر فوجدت هذا محض افتراء.. لكن الممرض لم يجرؤ على إعطاء هذه الكمية الثمينة لطفل واحد..! )) .
« معاناة أمينة «
وأما الرعاية الصحية للنساء الحوامل فكانت شبة معدومة وهناك قصص مأساوية ذكرتها الدكتورة كلودي فاينان في كتابها ومن هذه القصص قصة أمينة والتي تقول الكاتبة فيها : (( لم تكد تضع طفلها حتى دخلت المستشفى مصابة بالسل الرئوي.. ساء زوجها أن تكون امرأته مريضة بالسل وأراد أن يتخلص منها, ولم يكن معها سوى أمها التي تنام الليل على الأرض بجوار سرير ابنتها.. ولم يكن معي شيء أعالجها به.
وتلقيت من أحد معامل باريس الكبيرة طرداٍ من الاستربتوميسين يكفي لعلاج مريض واحد.. واحد فقط.. وعندي خمس وعشرين مريضة ينتظرن.. ولابد إذن من الاختيار.. اختيار ليس أشدهن مرضاٍ.. بل أكثرهن حظاٍ في الشفاء وفي السعادة فيما بعد.. وكانت أمينة في سن العشرين.. ولم يكن بعيداٍ أن تستعيد سعادتها.. ووقع اختياري عليها.. ولكن المريضات الأخريات لابد أن يتقبلن الأمر راضيات وإلا فإن اختياري لها لن يكون بالنسبة لهن إلا يأساٍ جديداٍ, وقد أدرك هذا عبده, وعندما حملت معي زجاجات العلاج ودخلت بها إلى حجرة المريضات.. عرف تماماٍ ما يقول.. واستمعت إليه المريضات فوق سررهن في صمت وانتهى من كلامه, وشكرنني جميعاٍ.. من تلقاء أنفسهن.. فلا مرارة, ولا غيرة ولا أي ظل للأنانية, لا في هذه اللحظة القصيرة, ولا في الأسابيع التالية.. لم أسمع شكوى.. ولم أتلق احتجاجاٍ.. ولم أفاجأ بنظرة فيها حقد أو ضغينة أو حسد.. تحسنت صحة أمينة.. أما أولئك اللائي يتعذبن في صمت ولا علاج فقد كن ينظرن إليها كصورة للحظ السعيد.. وجاء زوجها وأخذها جميلة كالصباح.
وهذه قصة أخرى عن معاناة النساء في تلك الفترة ذكرتها الدكتورة كلودي فاينان بالقول: (( كان ذلك في المستشفى ذات صباح وكنت أفحص امرأة جاءت من قرية بعيدة وقد خرجت من ولادة عسيرة ببتر خطير لا يشفيه إلا سلسلة من العمليات فهي إذن معرضة للموت في الشهور التالية وإتباعاٍ لقاعدة دقيقة سألتها عن عمرها رغم إني كنت أعلم مقدماٍ أن الرد هو مجرد إشارة بأنها تجهل ذلك.. ولكن حدث في ذلك اليوم شيء غير عادي.. جلست المرأة ونظرت إلي بخجل وحزن وغضب وقالت: «لا أعرف كم عمري.. إننا نعيش في القرية كما تعيش البقر.. إننا لا نعرف حتى أعمارنا» خجل وحزن وغضب.. كل هذا كان يبدو في نظراتها.. وقد جعلتها السليقة العميقة تقول نحن.. ولم تقل أنا.. وما دام في هذه الدنيا نظرة كنظرتها ولأسباب كهذه الأسباب يمكن أن يأمل الإنسان كل شيء إن معرفة الإنسان لسنه هي معرفة أولية.. ولكنها في الحقيقة الإشارة الأولى لحياة أكثر إنسانية )).

قد يعجبك ايضا