
في استطلاعات الرأي التي تجرى في دول العالم الأول تظهر السياسة في أدنى قائمة اهتمامات المواطنين ويكتفون بتركها لثلة منهم بينما ينصرفون إلى تتبع حياتهم وما ينمي الخدمات ويطور الأداء , ويحدد البرنامج الاقتصادي والاستثماري والتأمين الصحي من هو الحزب الفائز في انتخاباتهم بينما تحدد السياسة وتقلباتها الفائز لدينا مع أن الاقتصاد وبرامج التنمية هي ما يمس حياة كل واحد منا من الطفولة إلى الكهولة ومع ذلك نتحمس من كل أعماقنا للأنشطة السياسية وتحدد تقلباتها حياة الملايين وهو ما يجعلها رأس أولوياتنا فتقودنا من مشكلة إلى أخرى وتجر معها تدهور الخطوات وبطء النمو .
كيف لبلد أن يمضي إلى المستقبل إذا كان أول شيء يتوقف فيه هو البرنامج الاستثماري وهو آخر شيء يتحرك بتوجس – دون أن يسأل أحد عن سير التنمية وينحصر سؤالنا عن سير السياسة وكأننا جميعا أمناء عموم أحزاب كبرى ولا نملك مخاوف من توقف حركة الاقتصاد وتعثرها وأثر ذلك على أيامنا القادمات .
كم عدد الذين يقرؤون البرنامج الاقتصادي لمرشحيهم وكم عدد المرشحين الذين يقومون بإعداد برنامج من هذا النوع تظهر الإجابة بمعرفة عدد الخبراء الاقتصاديين داخل اللجنة المالية في البرلمان فبينما يتم التحدث عن مخاوف الوصول إلى التضخم يدور في ذهن الجميع ما هو التضخم إنها كلمة سمعوا بها من قبل لكنها ما تزال عصية على الفهم وتحتاج إلى دورتين انتخابيتين ليتم استيعابها – ولكن تحدث عن احتجاجات سياسية وأعمال شغب تلوح بالأفق تعقب إجراء اقتصادي وإن كان في مصلحة الجميع فتدور في الذهن صور واضحة ومفهومة .
نماذج
ترتص الأمثلة والنماذج في تفكيري وجميعها تؤكد أن التنمية آخر همومنا , فمثلا سل من جوارك الآن عن القادة السياسيين سيعد لك قائمة طويلة بهم وبأبنائهم وآبائهم فإن أردت إحراجه فسله أن يورد لك اسما مهتما بالاقتصاد – اطمئن لن تحصل إلا على الأدب الجم ووقار الصمت وانتقل الى استفساره عن عدد مصائبنا السياسية ستشعر انك أمام كاتب تاريخي ومحلل سياسي رفيع وحتى تحظى بفرصة تأمل انقله للحديث عن حدث اقتصادي أو عن مشروع تنموي نجح أو تعثر ثم تأمل كما يحلو لك .
إذا تتحمس جموعنا وأفرادنا في هذا المربع العربي لكل ما هو سياسي يحتشدون ويتركون أصل مشكلاتهم ليذهبوا نحو وجهة غريبة ويسلكون طريقا يفترض أن تترك لنفر قليل – فمن يتذكر ان بذور الربيع العربي كانت اقتصادية وأنه مع وجود التنمية ما كان شاب في تونس سيضطر إلى كسر قواعد الشارع وينزل للبيع في أماكن ممنوع تواجد الباعة المتجولين فيها ثم يشعل النار في جسده عقب شعوره بالمهانة على يد شرطية رأت أنه خالف القوانين فخالفت هي الأعراف والقوانين وصفعته في كرامته وإحساسه كإنسان , أجبره غياب التنمية وفرص العمل على المخالفة – ترك الأمر للنسيان لنتذكر فقط الحشود التي خرجت وستظل تخرج إلى أن تحس بالطمأنينة ومن قال ان مزاجات السياسة تأتي بها .
مستقبل
في بلدان يمتلك كل نسمة فيها عملا وينتظره مستقبل ويرى التنمية تدور من حوله لن يجد الساسة آلاف الناس ليحشرونهم في شؤون لا تعنيهم ولخدمة أهداف غامضة ويجندونهم لصالح مشاريع متضاربة وأفكار متداخلة وان وجدوا الحشد فسرعان ما تنتهي ساعات الاجتماع لأن العمل ينتظر والعجلة تدور والبطالة كابوس يخشاه الجميع ولا يريدون عيشه , يحتج عمال النقل بإيقاف حركة سير القطارات لساعة أو ساعتين ثم يعودون إلى عملهم بعد أن تصل الرسالة بينما لدينا تعطل الحياة وتقف المشاريع وتنام التنمية في غرفة مظلمة ولا نتمكن من تحديد الخلل الحقيقي فنكرر أخطاءنا ونحملها معنا في كل عام لتكبر وتنمو في رعايتنا الكريمة واهتمامنا البالغ .
تلاشي
يتدفق الحماس في آلاف الأعين بالفعل السياسي لكنه سرعان ما يتلاشى ويموت ويصبح وجعا لا يكتشفه طب ولا علم ويتحول مع الوقت إلى إحباط دائم – كيف لي أن أفرح بانتصار بلا برنامج يسعى لتحسين معيشتي – كيف لي أن أحتفل بنجاح يوفر لغيري مبتغاه ولا يوفر لي حتى قرضا أبدأ به مشوارا جديدا في حياتي معه تنمو وتستقر مواردي وآمالي – كل هذا لا توفره السياسة ولا طموحاتها كل هذا مؤجل إلى أن تأتي مشاريع التنمية التي تقصد كل نسمة كان في الريف أو في المدينة كان مستقلا أو متحزبا وهذه المشاريع لا تأتي إلا حين يوجد من يفكر بخلقها وجعلها حقيقة ومن يصحو وينام معها – باختصار التنمية هي ما يحدد نوع حياتنا ومستقبلنا.