لخّص أول رئيس لدولة كينيا “جوموكينياتا” حقيقة الاستعمار الذي تعرضت له قارة إفريقيا بقوله (عندما جاء المبشرون كنا نملك الأرض وكانوا يملكون الإنجيل علمونا أن نصلي لله بعيون مغلقة، عندما فتحنا أعيننا وجدناهم يملكون الأرض ونحن نملك الإنجيل)، فالاستعمار يبدأ أولى خطواته بأخذ أفكار الغير وينتهي بالخضوع له بفعل تفاوت القوة بين الاستعمار والدول النامية التي استولى عليها وفرض عليها التخلف والفقر والعبودية، مما جعلها عالة على منتجات الأمم الأخرى.
استغل الاستعمار كل ما يمكن أن يديم سيطرته في الاقتصاد والسياسة والدين والاجتماع وكل مجالات الحياة التي يستطيع التأثير بها على المجتمعات وفق مفاهيم الحرب الفكرية أو الحرب الناعمة التي تضع الأسس من خلال الأفكار لاختراق المجتمعات ثم السيطرة عليها .
الاعتماد على المؤسسات ومراكز الأبحاث بالإضافة إلى المنظمات والأحزاب وقد يصل الأمر إلى تسخير مؤسسات الدول لخدمة أهدافهم وتحقيقها حفاظا على مبدأ عدم التدخل السافر الذي قد ترفضه المجتمعات في كثير من الأحيان وأيضا حتى تلقى تلك السياسات القبول من الشعوب ولا ترفضها.
في الشرق والغرب قدمت الدراسات عن الأمة الإسلامية ليس من أجل التعرف على حضارة الإسلام إلا ما ندر منها؛ لكن من أجل رسم استراتيجيات تؤمّن السيطرة والتقدم لهم والانحطاط والتخلف لبقية الأمم.
الحرب الناعمة التي اعتمدوها ركزت بشكل مباشر على تدمير مكونات المجتمع –تدمير الشباب وإفساد المرأة واستهداف الأطفال، وفي مذكرات الجاسوس البريطاني (همفر) “إن وزير المستعمرات ودعه قبل تكليفه بالمهمة قائلا له-: استرجعنا إسبانيا من الكفار “المسلمين” بالخمر والبغاء وسنحاول استرجاع بلادنا بهاتين القوتين العظميين”.
أوروبا خرجت من عصور الظلام بفضل الحضارة الإسلامية قبل أن تتوحد وتتجه للاستيلاء عليها واقتسامها كغنيمة حرب؛ لكن بعد أن تمت لهم السيطرة وبعد أن قامت الثورات ضدهم رحلوا وسلموا مقاليد السلطة لمن يدينون لهم بالسمع والطاعة والولاء.
الإسلام منهج حياة كامل وشامل يحكم كل جوانب الحياة عامة والإنسانية خاصة، لأن الإنسان خليفة الله في الأرض، ولأنه منهج رباني، فإن الهوية الإيمانية أهم مرتبة من مراتب منطلقاته قال تعالى ((قل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين))، أما البرامج والأهداف التي يعمل عليها دهاقنة الغرب وغيرهم كبديل فضررها أكبر من نفعها مثلها كمثل الخمر، لكن العجب أن ينساق البعض للتسويق لها على أنها أساس للتطور والتحضر وعلى حساب المنهج الرباني الذي اختاره الله لهذه الأمة وكرّمها به وفضّلها على سائر الأمم.
الهوية الإيمانية تعتمد على تنمية الروابط بين أفراد الأسرة والمجتمع؛ تبدأ من الأسرة- الحاضن الأول وصولا إلى المجتمع والنظام والدولة، وهنا نجد أن معظم البرامج التي يتبناها الاستعمار والاستعباد في كل المجالات تستهدف تحطيم هذه الروابط والصلات الإيمانية، حتى يتم الاستفراد بكل فرد ومكون من مكونات المجتمع على حدة وفي تفصيل (همفر) “يجب الفصل بين الآباء والأبناء، حتى يخرجوا من تحت تربية الآباء وتكون التربية بأيديهم (المبشرين والمعلمين) لأنهم إذا خرجوا عن التربية انفصلوا عن العقيدة والتوجيه الديني والصلة بالعلماء”، وإذا خرجوا لم يبق سوى اختيار العناوين الجذابة والخادعة مثل الحرية والمساواة وحقوق الإنسان مع أن الإسلام شمل كل الحقوق بالرعاية والتفصيل لكن معظم من يقودون الأمم اليوم يفضلون رضا اليهود والنصارى على رضا الله .
يستغلون تفوقهم التكنولوجي والمادي لتسويق ما يريدون من خلاله تدمير المجتمعات جمعاً وفرادى بالمسلسلات وبرامج التواصل الاجتماعي، ومن خلال الشبكات العنكبوتية يغرسون سمومهم ويدمرون كل الروابط، لأن المجتمعات المفككة والمفتتة تسهل السيطرة عليها أكثير من المجتمعات المترابطة المعتزة بقيمها ومبادئها وحضارتها.
لقد وضعوا برامج إفساد تناسب كل أفراد المجتمع تخاطب المرأة والشباب والأطفال والمثقفين وغير المثقفين تحت إشراف خبراء في علم النفس وفي كل المجالات، فمثلا في برامج استهداف الشباب وإبعادهم عن القدوات الأسرية والتاريخية التي تحمي الهوية الإيمانية وبدلا عن ذلك يتم ربطهم بقدوات تكرّس الانفلات وترسيخ التبعية مثل نجوم الألعاب عامة وكرة القدم خاصة؛ ونجوم المسلسلات وغيرها من أجل إشغالهم عن الاهتمام بالقضايا الخطيرة التي يتوقف عليها مستقبل الأمة.
وفي مجالات التعليم عملوا على تزييف الحقائق وتدريس الأكاذيب والتركيز على الاهتمام بالقضايا الهامشية لا المهمة والأساسية؛ إلى جانب دعم انغماس الشباب في المفاسد والمغريات في كل وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والشبكات العنكبوتية .
وللدلالة على ذلك تنظيم المهرجانات للترفيه والتسوق وسباق الكلاب في كل من السعودية والإمارات وغيرها بالتزامن مع ارتكاب الإجرام الصهيوني لجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية في غزة، وهو ما يعد دعما مباشرا ومباركة لكل تلك الجرائم؛ ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تم سجن العلماء وقادة الرأي وكل من يناصر أو يدعم مظلومية الأشقاء على أرض غزة وفلسطين في تلاقٍ عجيب بين الإجرام والاستعمار والاستعباد .
فالأنظمة تريد إفساد الشباب لحماية نفسها واستمرار سلطانها وسطوتها والإجرام يريد استكمال مشاريعه الإجرامية في طرد الأشقاء هناك وتحقيق أحلامه بأرض الميعاد المزعومة.
في كتب التاريخ إن الصليبيين حينما أرادوا مواجهة المسلمين والسيطرة على الأندلس أرسلوا وفدا من أفضل حكمائهم للاطلاع وتقديم الحلول المناسبة وحينما وصلوا شاهدوا شابين يختصمان في مباريات تحدي الرماية من أول سهم؛ فرجعوا إلى قومهم ،محذرين “لم يحن الوقت بعد، لذلك يجب عليكم أن تعملوا على بث المفاسد والمغريات بكل الوسائل والسبل حتى يتم صرف اهتماماتهم في غير الأمور الاستراتيجية”، وفعلا تم توظيف كثير من الشبكات الإفسادية التي ذكرها وزير المستعمرات البريطاني “الخمر والبغاء” وكل المفاسد التي يتقنونها باستخدام الجواري والعبيد ولازال الأمر معتمدا في سياساتهم حتى الآن -حسب اعتراف وزيرة الخارجية الإسرائيلية في مذكراتها- انها استقبلت في سريرها كثيراً من الزعماء والقادة العرب بموجب فتوى المرجعيات الدينية اليهودية .
أُرسل الوفد مرة أخرى بعد سنوات لدراسة نتائج تلك السياسة، وهنا وجدوا أنها أثمرت وأثرت في الشباب، فقد أصبحوا يتنازعون على الظفر بقلوب الغانيات لا الفوز في أمور الحرب، فكان التوجيه منهم “الآن يمكنكم هزيمتهم وطردهم من الأندلس” بعد مكث حضاري يتجاوز ثمانمائة وخمسين عاما .
الشباب اليوم يتعرض لخطر عظيم يكاد يعصف بآمال الأمة إن لم يتم التدارك بالتربية الإيمانية وشغل فراغهم بكل الأمور التي تحميهم من الوقوع كضحايا للإجرام الذي يستهدفهم، سواء من الأنظمة الفاسدة التي تحالفت مع اليهود والنصارى وغيرهم من المتربصين للظفر بالقصعة والاستيلاء على خيرات وثروات الأمة، مستغلا للفراغ في بث اليأس والقنوط وتحويلهم إلى مسار خدمة مشاريعهم الإجرامية؛ فالشباب هم طليعة الأمة ودرعها الذي تحتمي به، فإذا سيطر عليهم تمكن من تحقيق مشاريعه الإجرامية وبأقل التكاليف وأسهل الطرق.