تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة تجاه قطاع غزة وتهجير سكانها وتحويلها إلى منطقة سياحية استثمارية (ريفييرا الشرق الأوسط)، ينظر إليها بالتصريحات المجنونة من شخصية معروف عنها أنها شخصية صفقات تطرح دائماً قضايا ذات مثار خلاف وجدل، ومن الواضح أنّ ترامب استقى تصوّر إفراغ قطاع غزة من أهلها وتحويلها إلى منطقة استثمارية من صهره اليهودي جاريد كوشنر الذي قال قبل عام خلال جلسة مع مبادرة الشرق الأوسط التابعة لجامعة هارفارد: إنّ قطاع غزة عقار مطلّ على البحر وينبغي على “إسرائيل” تهجير أهله الفلسطينيين إلى النقب في مصر.
ترامب ما زال يُطلق تصريحات بحثاً عن الأضواء بلغة الاستعراض، لإحداث ضجيج إعلامي كبير، وهذا يجعلنا نطرح سؤالاً مهماً، هل يمكن أن تتحقّق أوهام ترامب على أرض الواقع؟
الثابت في هذه الحالة أنّ القضية الفلسطينية تواجه مجّدداً إحياء مسار التصفية والتهويد، وينبغي أن تؤخذ هذه التصريحات على محمل الجدّ من كلّ الأطراف السياسية المعنية بعيداً عن أهدافها الحقيقية، بدءاً من الفلسطيني بأطيافه السياسية كافة وصولاً إلى دول المنطقة المجاورة لفلسطين إذا ما نظرنا إلى خطورة هذه الفكرة على الأمن القومي لتلك الدول، حتى لو كان المقصود منها غير ذلك توقيتاً.
من يدقّق في طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يدرك أنه استخدم أكثر من مرّة تصريحات وظّف فيها نظرية الصدمة لإرباك جميع الأطراف وتحقيق أهدافه بكلفة قليلة، وهنا يكمن السؤال، ما الذي يريده ترامب من وراء هذه التصريحات؟
ثمّة احتمال يُقرأ بين السطور، أنّ دعوات الرئيس ترامب ما هي إلا لرفع سقف التفاوض، لكنّ الهدف الأساسي من ورائها بخلاف ما يتمّ التصريح به علناً، وهو يدرك أكثر من غيره وفق تصريحات كشف عنها مستشاروه أنّ فكرة تهجير وترحيل الفلسطيني من أرضه لن تحدث إلا بحرب مدمّرة، وهذا ما يجعلنا نتوقّف ونطرح تساؤلا ذات أهمية، هل حديثه عن أهمية وقف إطلاق النار والحرب في غزة يتوافق مع فكرة التهجير والترحيل؟
قبل أسابيع قليلة مضت بعد تولّيه الحكم هدّد ترامب وتوعّد بضمّ كندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وفرض رسوم جمركية عليها، وبعد اتصال برئيس الوزراء الكندي وافق ترامب على نشر قوات كندية على الحدود لمنع ووقف حركة المهاجرين من كندا إلى أمريكا، والقضية نفسها حدثت مع المكسيك خلال حديثه عن السيطرة على قناة بنما، تراجع ترامب بعد تعهّد بنما بالحدّ من الوجود الصيني حول القناة.
هذه أحداث مهمة يجب التوقّف أمامها، ما الذي يريده ترامب حقيقة من قطاع غزة بعد هذه التصريحات؟
الاعتقاد السائد حتى الآن يقول إن ترامب يريد توجيه عدة رسائل قابلة للاحتمالات، على رأسها الآتي:
أولاًـــــ إرباك نتنياهو بحيث يشتّت انتباهه عن قضايا أخرى مثل الدخول في نقاشات تنفيذ صفقة التبادل مع حماس أو توجيه ضربة عسكرية لإيران.
ثانياًـــــ توفير دعم سياسي وغطاء لنتنياهو أمام اليمين الصهيوني المتطرّف لإغرائه بالمضيّ قدماً في تنفيذ صفقة التبادل مقابل تصوّر التهجير.
ثالثاًـــــ توجيه رسالة داخلية خاصة بالإنجيليين في الولايات المتحدة الأمريكية أمام قضايا بدأ الرئيس ترامب طرحها وبدت تشير إلى حال من عدم الرضى والقبول تجاهها في الداخل الأمريكي.
رابعاًـــــ خفض السقف الفلسطيني في المفاوضات لمستوى متدنٍ هدفه العمل على تغييب حماس من المشهد والتركيز على قضية ضرورة نزع سلاحها.
خامساًـــــ ربما يهدف لغرض تخفيف المطالب السعودية مقابل التطبيع، أو ربما يكون الأمر له علاقة بالابتزاز المالي المعروف عن مدرسة ترامب في علاقته الخاصة مع السعودية.
مع هذه الاحتمالات، ثمّة سؤال يفرض نفسه حيال ذلك، سؤال يُطرح عن مدى التحدّي لخطة ترامب بهدف خفض التكلفة في أيّ مسار يريده، إذ إنّ الردّ على طروحات ترامب يجب أن تكون على قاعدة واضحة لا لبس فيها أو تأويل، بضرورة سحب الاعتراف بـ “إسرائيل” فلسطينياً، والتمسّك بحقّ الفلسطينيين في أرضهم ووطنهم ليس في غزة بل في الضفة التي تواجه خطر الضمّ، وفي القدس التي تواجه خطر التهويد، وفي الأراضي المحتلة عام 1948 التي تواجه خطر السرقة والاستيطان، على قاعدة فلسطين التاريخية أرض للفلسطينيين وحدهم من النهر إلى البحر، فما يفعله ترامب هو تلاعب استراتيجي بمصير الشعب الفلسطيني بأكمله، وما يمارسه ترامب مخطّط مدروس مستوحى من نظريات سياسية علمية بالدرجة الأولى.
إفراغ قطاع غزة من سكانه الأصليين هو حلم اليمين الإسرائيلي المتطرّف بعد حرب الإبادة الجماعية التي تعرّضت لها غزة على مدار خمسة عشر شهراً، وهذا يفرض على الفلسطينيين حزمة من الإجراءات السياسية والدبلوماسية والميدانية ، ويوجب مزيداً من الفعل والتحدّي، بدءاً بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتشكيل جبهة وطنية جامعة موحّدة تضع استراتيجية شاملة لمواجهة التحدّيات والمخاطر والتهديدات المحدقة بغزة تحديداً وفلسطين عموماً، والعمل على تعزيز المقاومة الشعبية الشاملة والاشتباك مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية كافة.
مفاجأة ترامب جميع الأطراف بتصريحات مهووسة بشأن قضية تتعلّق بقطاع غزة تحدث ضجيجاً وتمنحه حضوراً وتفاعلاً كبيراً بات يفوق أيّ حديث حول قضايا دولية كبرى، إذ إنّ هذا الزخم الإعلامي وإطلاق التصريحات غير المحسوبة تمنحه مزيداً من المكاسب بكلفة أقلّ، وكأنه ينظر إلى غزة كحلبة للاستعراض، ويبدو أن إعلان ترامب التهجيري مثل بالون اختبار لقياس ردّة فعل كلّ الأطراف العربية والدولية، كما وفيها جزء من دعم نتنياهو لترتيب أوراقه الداخلية في الائتلاف الحكومي تمهيداً للانتقال إلى المرحلة الثانية من صفقة تبادل وقف إطلاق النار، لكنه عندما شاهد حجم الردود العربية والدولية الرافضة لخطته تراجع وقال إنه ليس في عجلة من أمره لتنفيذ هذه الخطة، وهو ما عبّرت عنه المتحدثة باسم البيت الأبيض التي بدأت خطة التراجعات.
الجديد في حملة التراجع التي بدأها البيت الأبيض عن تصريحات ترامب يكشف عن بشاعة الفكرة، ووقاحة الطرح، أمام شخصية بلطجية تتعامل مع قضايا المنطقة كصفقات تجارية وبمصلحية مطلقة.
*كاتب ومحلل سياسي فلسطيني